واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي e وهي كثيرة، ومنها ما أصله قولي، ولكن الصحابي لا يذكر القول، بل يقول: أمرنا النبي e بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذن في كذا، وأشباه هذا وهذا كثير أيضا.
وهذان الضربان ليسا محل نزاع، والكلام فيما يقول الصحابي فيه: قال رسول الله e كيت وكيت، أو نحو ذلك.
ومن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذ حكوا قوله e يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها فيقع له تقديم وتأخير، أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك.
ومع هذا فقد عرف جماعة من الصحابة كانوا يتحرون ضبط الألفاظ، وكان ابن عمر ممن شدد في ذلك، وقد آتاهم الله من جودة الحفظ ما أتاهم.
فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفظ فهو بلفظ النبي e، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك؛ لأنهم كلهم كانوا يتحرون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرف من بعدهم)) ().
أما قول برويز إن الله لم يتكفل بحفظ السنة فنقول: إن الله تكفل بحفظ الذكر، وهو يشمل القرآن والسنة لأنها بيان له لا تنفك عنه، ومظاهر حفظ الله للسنة النبوية بادية أمامنا، إذ لم تخل العصور الإسلامية من حفاظ الحديث الذين شمّروا عن ساعد الجدّ لحفظه في صدورهم وتتبعه من أفواه الرجال وقطع المفاوز والفيافي للقاء من سبقهم من الحفاظ، واشتد حرص كثير منهم في كتابة ما سمعوه فاجتمع لهم الضبطان: ضبط الصدر وضبط الكتاب، ثم كانوا إذا أرادوا أن يرووا عن رجل سألوا عنه وفحصوا حاله حتى كان يقال لبعضهم: أتريدون أن تزوجّوه، كل ذلك احتياطاً للسنة، ونشأ عن ذلك علمٌ قائم بنفسه هو علم الرجال، بحيث لا يخفى على المعنيّ بأمر الحديث حال الرواة جرحاً وتعديلاً، وهو علمٌ لا يوجد عند الأمم غير الإسلامية، فمن عرف اجتهاد المحدثين ونصحهم للأمة علم مدى عناية الله سبحانه بحفظ السنة النبوية.
أما إلغاء حجية السنة بسبب وجود أحاديث موضوعة فسيأتي في الجواب عن الشبهة الثامنة الكلام عن وجود الغش في النفائس عموماً، وأن هذا لم يصدَّ الناس عن أخذ الصحيح وترك المغشوش، هذا في الأمور الدنيوية فكيف يتركهم الله عُمياً فاقدي البصائر فيما يتعلق بدينهم؟ هذا بعيد عن حكمة الله.
ثم إن العلماء وضعوا لمعرفة الحديث الموضوع ضوابط تعين على إدراكه ليُعرف فيحذرَ، منها:
1. اشتمال الحديث على مجازفات لا يقول مثلها رسول الله e كحديث
((من صلى الضحى كذا وكذا ركعة أعطي ثواب سبعين نبياً)) قال ابن قيم الجوزية: ((وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صلى عمر نوح عليه السلام لم يعط ثواب نبي واحد)) ().
2. تكذيب الحس له.
3. سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه كحديث ((لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً، ما أكله جائع إلا أشبعه)).
4. مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة المتواترة مناقضة بينة، فكل حديث يشتمل على فساد أو ظلم أو عبث أو مدح باطل أو ذم حق، أو نحو ذلك فرسول الله e منه بريء.
5. أن يُدّعى على النبي e أنه فعل أمراً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم وأنهم اتفقوا على كتمانه ولم ينقلوه كما يزعم الرافضة أن النبي e أخذ بيد علي بن أبي طالب بمحضر من الصحابة كلهم، وهم راجعون من حجة الوداع، فأقامه بينهم حتى عرفه الجميع ثم قال: ((هذا وصيّي وأخي والخليفة من بعدي)) ().
6. أن يكون الحديث باطلاً في نفسه كحديث ((المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش)) ().
7. أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء، فضلاً عن كلام رسول الله e الذي هو وحي يوحى كحديث ((النظر إلى الوجه الجميل عبادة)) ().
8. ومنها أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قوله: ((إذا كان سنة كذا وكذا وقع كيت وكيت، وإذا كان شهر كذا وكذا وقع كيت وكيت)).
9. أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق.
10. أن يكون الحديث مما تقوم به الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج بن عنق الطويل ففي حديثه أن طوله كان ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين وثلثاً، مع أنه صحّ عن النبي e أن طول آدم ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن)) () ().
¥