تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الثاني: ما كان خلافاً في الفروع الفقهية والمسائل التي لم تجمع الأمة فيها على رأيٍ واحد، وذلك كالاختلاف الواقع في المذاهب الأربعة، وكثير من المسائل الحادثة التي اختلف فيها أهل العلم، فهذا النوع من الاختلاف غيرُ مذمومٍ إذا وقع من أهله العارفين بأصوله، بل يمدحُ إن كان الحاملُ عليه اتباعَ الحق وتقديمه، ذلك أن نصوص القرآن والسُّنَّة في بيان تلك الأحكام ظنيةٌ في دلالتها، فربما رجح مجتهد مالم يرجحه آخر، فالكلُّ مأجور في اجتهاده، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» متفق عليه (5).

وقد كان خلاف الصحابة، وأئمة السلف من هذا النوع، فلم يوجب فسقاً ولا بدعة، بل كان بعضهم يجلُّ بعضاً، ويكرمه من غير أن يكون خلافهم لتفرقهم، طالما أن الحقَّ بغيةُ كل واحدٍ منهم ومطلبه، لكن خلفهم خلوفٌ ادعَى كلُّ طائفةٍ منهم التمسك برأي إمامٍ، وتعصبَ كلُّ فريق لإمامة، وضللَّ الطائفة الأخرى، فتركت كل طائفة بعض ما أمرت به من الحقِّ، وارتكبت بعض ما نهيت عنه، فوقعت العداوةُ والبغضاءُ، شأن أهل الكتاب من قبلنا، فلله الأمر من قبل ومن بعدُ. والله المستعان.

والاختلاف منه المذموم ومنه المحمود أيضاً:

الاختلاف المذموم (6):

وهو اختلاف تضاد، ويرجع إلى أسباب خلقية متعددة، ومن هذه الأسباب:

1 - الغرور بالنفس والإعجاب بالرأي.

2 - سوء الظن والمسارعة إلى اتهام الآخرين بغير بينة.

3 - الحرص على الزعامة أو الصدارة أو المنصب.

4 - اتباع الهوى وحب الدنيا.

5 - التعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف.

6 - العصبية لبلد أو إقليم أو حزب أو جماعة أو قائد.

7 - قلة العلم في صفوف كثير من المتصدرين.

8 - عدم التثبت في نقل الأخبار وسماعها.

وهذه الأسباب وغيرها من الرذائل الأخلاقية والمهلكات هي التي ينشأ عنها اختلاف غير محمود وتفرق مذموم، وكل واحد من هذه الأسباب يطول شرحه، وسنأتي على ذكر الكثير من هذه الأسباب عند الكلام عن القواعد العلمية والأخلاقية في أدب الخلاف.

الاختلاف المحمود (7):

وهو اختلاف تنوع، وهو عبارة عن الآراء المتعددة التي تصب في مشرب واحد، ومن ذلك ما يعرف بالخلاف الصوري، والخلاف اللفظي، والخلاف الاعتباري. وهذه الاختلافات مردها إلى أسباب فكرية، واختلاف وجهات النظر، في بعض القضايا العلمية، كالخلاف في فروع الشريعة، وبعض مسائل العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية.

وكذلك الاختلافات في بعض الأمور العملية، كالخلاف في بعض المواقف السياسية، ومناهج الإصلاح والتغيير، ويدخل في الخلافات الفكرية: اختلاف الرأي في تقويم بعض المعارف والعلوم مثل: علم الكلام والمنطق والفلسفة والتصوف. والاختلاف في تقويم الأحداث التاريخية وبعض الشخصيات التاريخية والعلمية.

وهذا الخلاف ليس فيه مذمة، وإنما الذم في عدم مراعاة آداب الخلاف العملية والأخلاقية التي سيأتي ذكرها في ثنايا هذا البحث.

وجود الخلاف في خير قرون الأمة:

لقد كان الخلاف موجودًا في عصر الأئمة المتبوعين الكبار: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم. ولم يحاول أحد منهم أن يحمل الآخرين على رأيه أو يتهمهم في علمهم أو دينهم من أجل مخالفتهم.

بل كان الخلاف موجودًا في عصر شيوخ الأئمة وشيوخ شيوخهم من التابعين الكبار والصغار، بل كان الخلاف موجودا في عصر الصحابة نظرًا لاختلاف أفهامهم وتفسيرهم للنصوص.

بل إن الخلاف وجد في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم)، فأقره ولم ينكره، كما في قضية صلاة العصر في بني قريظة، وهي مشهورة، وفي غيرها من القضايا.

فأما طبيعة الدين:

فقد أراد الله أن يكون في أحكامه المنصوص عليه والمسكوت عنه، وأن يكون في المنصوص عليه: المحكمات والمتشابهات، والقطعيات والظنيات، والصريح والمؤول، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط، فيما يقبل الاجتهاد.

ولو شاء الله لأنزل كتابه كله نصوصًا محكمة قطعية الدلالة، لا تختلف فيها الأفهام، ولا تتعدد التفسيرات. ولكنه لم يفعل ذلك، لتتفق طبيعة الدين مع طبيعة اللغة، وطبيعة الناس وضروريات الزمن.

وأما طبيعة اللغة:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير