تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

(والثاني) أَنَّ الشريعة حاكمة لا محكوم عليها، فلو كان ما يقع من الخوارق

والأمور الغيبية حاكمًا عليها: بتخصيص عموم، أو تقييد إطلاق، أو تأويل ظاهر،

أو ما أشبه ذلك لكان غيرها حاكمًا عليها، وصارت هي محكومًا عليها بغيرها،

وذلك باطل باتفاق، فكذلك ما يلزم عنه.

(والثالث) أَنَّ مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها؛

وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك بل أعمالاً من أعمال

الشيطان.

ثم قال بعد ذكر شاهدين من الخوارق في فصل من هذه المسألة ما نصه:

(ومن هنا يعلم أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح

ردها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك فهي

صحيحة مقبولة في موضعها، وإن لم تقبل إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء

عليهم السلام، فإنه لا نظر فيها لأحد؛ لأنها واقعة على الصحة قطعًا) اهـ.

أقول: والغرض من هذا كله؛ بيان أن الشريعة كاملة لا تحتاج إلى تكميلها

بالكشف، ولا بالرؤيا والأحلام، وأنها هي الحاكمة لا يحكم عليها سواها. وقد

قرأت كلام هذا الأصولي الذي يصدق بالخوارق، وأنت تعلم من علماء الأصول من

لا يقول بجوازها لغير الأنبياء، كالمعتزلة والأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي

من أئمة الأشعرية، والأكثرون القائلون بجوازها لا يقولون بأن أحدًا يكلف تصديق من

يدعيها بشيء مما يدعيه منها وإن وافق الشرع، فكيف يكلفونه أن يصدقه بالعبث

بأحد أصوله كالسنة النبوية، بأن يصحح ما لم يصح عن الرسول - صلى الله

عليه وسلم - ويكذب ما صح عنه، وهم يعترفون معه بأن بعض هذه الخوارق

والمكاشفات أحوال شيطانية. فإذا كان فيها الحق والباطل، والخطأ والصواب، فهل

عندنا شيء نرجع إليه في بيان الحق والصواب إلا الشريعة المطهرة؟ فمما تقدم كله

تعرفون أنه لا وجه للاعتماد على قول من يصحح الأحاديث بالكشف، ولا قول من

يجعل الكشف أصلاً شرعيًّا، ولا عمل المكاشف بكشفه المخالف للشرع فضلاً عن

عمل غيره به، وما وافقه كان كالرأي والميل النفسي، وقد تقدم أن الصحابة لم

يقولوا بشيء من ذلك، وبذلك تتم أجوبة الأسئلة الثلاثة.

وأما السؤال الرابع: فهو على العلم بجوابه مما سبق أيضًا، وهو أنه لا يعتمد

على قول أهل الكشف، إذا قالوا بوضع ما صححه المحدثون من الأحاديث، يحتاج

فيه إلى التنبيه على أمر مهم، وهو إن ما صح سنده من الحديث قد يكون غير

صحيح المتن، فإن بعض الذين يتعمدون وضع الحديث كانوا لحذرهم من نقد

صيارفة المحدثين يظهرون الورع، ويتحرون الصدق، وقد تاب بعضهم فاعترفوا

بذلك، ولذلك جعل المحدثون للحديث الموضوع علامات، منها ما يتعلق بمتنه

كركاكة الألفاظ أو المعاني، ومخالفة نصوص الكتاب أو السنة المتواترة، ومخالفة

العقل، كما قالوا في حديث طواف سفينة نوح بالبيت على أن سنده غير مرضي

كمتنه. فمن كان ذا بصيرة نيرة في الدين وعلم بمقاصده، يمكنه أن يعرف الحديث

الموضوع، وإن قالوا بصحة سنده. ولكن لا يقبل قوله إلا بدليل معقول.

وأما السؤال الخامس: فجوابه أن من تقبل روايته هو من يوثق بحديثه

وإن لم يكن معصومًا، فإن ذلك القائل يعلم بالضرورة أن من الناس العدل الثقة

الصدوق، وإن لم يكن معصومًا ومنهم الفاسق الكذوب، وأنه يثق بخبر الأول دون

الثاني، فكيف يجعل مع هذا رواية هذا كرواية ذاك؟ هل يستوي الصادقون

والكاذبون؛ لأن كلامهما غير معصوم؟ وغاية ما يترتب على عدم العصمة أن يكون

خبر الصدوق غير المعصوم مفيدًا للظن لا لليقين، وهذا ما اتفق عليه العلماء في

أحاديث الآحاد، ولذلك قال المحققون: إنه لا يحتج بها في المسائل التي يطلب فيها

اليقين كمسائل الاعتقاد.

وأما السؤال السادس: فجوابه: أَنَّ ما ذكر السيوطي مذكور في بعض الكتب

ولكن لم يرو عنه بأسانيد صحيحة متصلة أنه ادعى ذلك، ولو روي كذلك لم يكلف

أحد تصديقه، ومن صدقه لا يجوز له أن يأخذ بتصحيحه لتلك الأحاديث؛ لأن هذا

من قبيل الكشف، وقد علمت أنه لا يعتمد عليه، وقد ادعى كثيرون رؤية النبي

صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فأنكر عليهم بعض العلماء وسلم لهم آخرون، ولا

يقول أحد من هؤلاء ولا من أولئك بأنه يجب على أحد أن يؤمن لهم، ويأخذ

بدعواهم.

ولهم في هذه المسألة كلام كثير في الرؤية الخيالية وغير الخيالية، وقد عرفنا

نحن غير واحد من الصوفية الذين يدعون رؤية الأرواح ومخاطبتها، ومنهم من قال:

إنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحاديث كثيرة من الجامع الصغير

للسيوطي فأنكرها - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا نسمع عنهم التناقض في الكشف

وفي رواية النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل يصح أن نحكمهم في الحديث حتى

مع التسليم لهم؟؟ لا لا.

وأما السؤال السابع: فهو من الحكايات التي يتناقلها الناس، وليس لها رواية

يوثق بها، ومعناها كما ترى صريح في أن حجة الغزالي أقوى من حجة كليم الله،

وهو في جوار الله فحسبنا الله.


((مجلة المنار ـ المجلد [10] الجزء [5] صـ 348 جمادى أول 1325 ـ يوليو 1907))
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير