بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.
(ولا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال خوفًا أن يقول الناس: إن محمدًا
يقتل أصحابه، فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به، فلا حرج لأنا
نقول هذا من أدل الدليل على ما تقرر؛ لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ
ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح
ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر، بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر
وران على الظواهر وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملةً، ألا ترى إلى باب
الدعاوى المستند إلى أن البيِّنة على المدعي واليمين على من أنكر، ولم يستثن من
ذلك أحد، حتى إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - احتاج إلى البينة في بعض ما
أنكر فيه، مما كان اشتراه فقال: (من يشهد لي) حتى شهد له خزيمة بن ثابت،
فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكبر الناس على أصلح الناس،
لكانت البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك والنمط واحد،
فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية، ومن هنا لم يعبأ
الناس من الأولياء وغيرهم بكل كشف أو خطاب خالف المشروع، بل عدوا أنه من
الشيطان، وإذا ثبت هذا فقضايا الأحوال المنقولة عن الأولياء محتملة، وما ذكر من
تكليم الشجرة فليس بمانع شرعي، بحيث يكون تناول التين منها حرامًا على المكلم
كما لو وجد في الفلاة صيدًا فقال له: إني مملوك وما أشبه ذلك.
لكنه تركه لغناه عنه لغيره من يقين الله أو ظن طعام بموضع آخر أو غير ذلك،
وكذلك سائر ما في هذا الباب، أو نقول: كان المتناول مباحًا له فتركه لهذه العلامة،
كما يترك الإنسان أحد الجائزين لمشورة أو رؤيا، وغير ذلك حسبما يذكر بعد بحول
الله تعالى، فكذلك نقول في الماء الذي كوشف: إنه نجس أو مغصوب، وإذا كان له
مندوحة عنها بحيث لا ينخرم له أصل شرعي في الظاهر، بل يصير منتقلاً من جائز
إلى مثله فلا حرج عليه، مع أنه لو فرضنا مخالفته لمقتضى ذلك الكشف؛ إعمالاً
للظاهر واعتمادًا على الشرع في معاملته به فلا حرج عليه ولا لوم؛ إذ ليس
القصد بالكرامات والخوارق أن تخرق أمرًا شرعيًّا، ولا أن تعود على شيء منه
بالنقض، كيف؟ وهي نتائج عن اتباعه فمحال أن ينتج المشروع ما ليس بمشروع أو
يعود الفرع على أصله بالنقض، هذا لا يكون ألبتة، وتأمل ما جاء في شأن
المتلاعنين، إذ قال عليه السلام: إن جاءت به على صفة كذا فهو لفلان، وإن جاءت
به على صفة كذا فهو لفلان، فجاءت به على إحدى الصفتين وهي المقتضية
للمكروه، ومع ذلك فلم يقم الحد عليها، وقد جاء في الحديث نفسه: (لولا الأيمان
لكان لخولها شأن)؛ فدل على أن الأيمان هي المانعة، وامتناعه مما هم به، يدل
على أن ما تفرس به لا حكم له حين شرعية الأيمان، ولو ثبت بالبينة أو بالإقرار بعد
الأيمان ما قال الزوج: لم تكن الأيمان دارثة للحد عنها.
والجواب عن السؤال الثاني: أنَّ الخوارق وإن صارت لهم كغيرها فليس
ذلك بموجب لإعمالها على الإطلاق؛ إذ لم يثبت ذلك شرعًا معمولاً به، وأيضًا فإن
الخوارق وإن جاءت تقتضي المخالفة فهي مدخولة، قد شابها ما ليس بحق كالرؤيا
غير الموافقة، كمن يقال له: لا تفعل كذا وهو مأمور شرعًا بفعله، أو افعل كذا وهو
منهي عنه، وكثيرًا ما يقع هذا لمن لم يبن أصل سلوكه على الصواب، أو من سلك
وحده بدون شيخ، ومن طالع سير الأولياء وجدهم محافظين على ظواهر الشريعة
غير ملتفتين فيها إلى هذه الأشياء.
(فإن قيل: هذا يقتضي أن لا يعمل عليها، وقد بنيت المسألة على أنها يعمل
عليها؛ قيل: إن المنفي هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعية، فأما العمل عليها
مع الموافقة فليس بمنفي).
أقول: فهي لا تقل عن الهوى الموافق للشرع. ثم ذكر في المسألة الثانية عشرة
ما نصه:
(إن الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين وجارية على مختلفات أحوالهم
فهي عامة أيضًا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف، فإليها
نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن، كما نرد إليها كل ما في الظاهر، والدليل على
ذلك أشياء منها ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر
الشريعة.
¥