تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما المعنى الفقهي فيقول ابن القيم: (فالحيلة هي نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه؛ بحيث لا يُفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فهذا أخص من موضوعها في اللغة، وسواء كان المقصود أمراً جائزاً أو محرماً. وأخص من هذا استعمالها في الغرض الممنوع شرعاً أو عقلاً أو عادة، فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس) (3). ومن هنا فإن الحيل لا تعتبر جميعها محرمة، وإنما المحرم ما كان وسيلة إلى الوصول إلى ما حرم أخذه أو فعله. ولذا لا بد من معرفة الفرق بين الحيل المحرمة والحيل الجائزة، يقول الشاطبي: (الحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما هدم أصلاً شرعياً وناقض مصلحة شرعية، فإن فُرض أن الحيلة لا تهدم أصلاً شرعياً ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي) (4)، وقد وضع الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ مقياساً يتبين به المتأمل نوع الحيلة، ومدى قبولها من رفضها، يقول: (فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب؛ حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالاً في الظاهر أيضاً؛ فهذا التسبب يُسمّى حيلة وتحيّلاً) (5). ومن هنا يتضح أن أي أسلوب يُتخذ أو يُتبع يؤدي إلى إسقاط الواجب أو تحليل المحرم في الظاهر؛ فإنه يُسمّى حيلة عند الفقهاء.

إن التحايل على الأحكام الشرعية بقصد إرضاء النفس والتحايل لأكل الحرام وفعله؛ من الأمور التي حرمها الله ـ تعالى ـ في كتابه، وأجمع على تحريمها سلف هذه الأمة، ومن أجاز صوراً من العقود البيعية للبنوك (والتي سنناقشها لاحقاً)؛ بقصد توفير احتياجات الناس للمال بدون إيقاعهم في الربا ظاهراً، وبقصد إخراجهم من الضيق والحرج والتوسعة عليهم بحكم أن الشريعة دائرة أحكامها على التخفيف واليسر والأخذ بالرخص؛ فهذا أمر غير مسوَّغ شرعاً، فإن من الأمور التي يأمر بها الشرع تقوية الخوف من الله، وهذا من مقاصد الشرع، ولهذا نجد في كثير من الأمور أن الشريعة حرّمت كثيراً من البيوع سداً لذريعة الربا، كما نهت عن ممارسة كثير من الأمور المشتبهات بقصد تقوية الخوف من الله حذراً من الوقوع فيما حرمه، ولهذا فلا ينبغي تتبع حيل المذاهب من أجل تلبية رغبة الناس وإرضائهم، ومن الأمور المؤسفة تتبع الآراء الشاذة والحيل التي وضعها بعض الفقهاء للابتعاد عن تنفيذ أحكام الله وعن مقاصد الشريعة التي من أجلها جاءت الشريعة، وخاصة فيما يتعلق بالمعاملات المالية، كما هو حاصل الآن من إجازة عقود تتعارض مع مقاصد الشريعة تلبية لرغبات الناس، ومن الأمور المقررة شرعاً أن هناك تلازماً بين مقاصد الشريعة والنية والعمل، يقول ابن القيم: (فالنية روح العمل ولبّه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم، وهو قوله: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى)، فيبين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له ولا يعصمه من ذلك صورة البيع) (6).

وقد استشهد ـ رحمه الله ـ لما توصل إليه من ارتباط المقاصد بالأفعال بقصة أصحاب الجنة؛ (بأن حرمهم ثمارها لما توصلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين، وكذا اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله، ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع، فلم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك ... وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه)، يعني ثمنه المقابل لمنفعة الأكل، فإذا كان فيه منفعة أخرى، وكان الثمن في مقابلتها؟ لم يدخل في هذا. إذا تبين هذا؛ فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقاً بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته؛ لم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير