وتكون صناعة الورق معدومة والأمية منتشرة (كما كان الحال في جزيرة العرب
عند ظهور الإسلام)؟
القرآن أيضًا منقول بالرواية:
ثم نسأل هؤلاء: أليس القرآن الكريم أيضًا منقولاً بالرواية؟ نعم إن هناك فرقًا
بينه وبين الحديث، وهو أن القرآن منقول بالتواتر والحديث منقول برواية رجال
معدودين؛ ولكنهم ليسوا مجاهيل، بل رجال مشهورون، أحوالهم معلومة، وأسانيدهم
محفوظة، وهذا الفرق يقتضي التفاوت في درجات اليقين والوثوق، لا في نفس
القبول والاعتبار، وهذا الفرق مسلَّم عند كل مسلم، لا يقول أحد منهم بأنهما متساويان
من كل جهة.
أصول الحديث:
ولما كانت الأحاديث أخبارًا وجب أن نستعمل في نقدها وتمييز الصحيح من
غيره أصول النقد التي نستعملها في سائر الروايات والأخبار التي تبلغنا، أعني إذا
سمعنا خبرًا فماذا نعمل؟ ننظر أولاً في حال الراوي الذي سمعنا منه هذا الخبر،
هل هو ممن يُعَوَّل على روايته أم لا؟ ثم ننظر في حال من روى عنه هذا الرجل
وهكذا إلى أن تنتهي الوسائط، ثم نتحقق هل الراوي الأعلى كان حاضرًا الواقعة أم
لا؟ وهل كان بإمكانه فهمها وحفظها؟ ثم ننظر في الأمر المروي هل يلائم أحوال
الرجل الذي نُسب إليه وهل يمكن وقوعه في ذلك العصر والمحيط أم لا؟
فهذه القواعد وأشباهها استعملها المحدثون في نقد الأحاديث وسموها (أصول
الحديث) وبذلك ميزوا الأحاديث الصحيحة من غيرها، ولا زال الباب مفتوحًا لمن
أراد أن يأتي البيوت من أبوابها.
الحديث تاريخ الإسلام:
لا يخفى أن القرآن الحكيم إنما نزل لهداية البشر إلى مصالحهم الدينية
والدنيوية، ولهذا بيَّن لهم طريق العمل وسبل النجاح، وأعلن أن الأمة التي تعمل
بهذا القانون تكون لها الخلافة في الأرض، وتنال من السعادة والسيادة ما لا مزيد
عليه، وتكون خير أمة أُخرجت للناس، وكل من لم يعمل بهذا القانون يكون ذليلاً
مهانًا في الأرض، وشقيًّا في الدنيا والآخرة.
فإذا سَأَلَنا أحد: هل وُجدت أمة في زمن من الأزمان عملت بهذا القانون؟ وهل
نالت به ما وعدت؟ ومتى كانت تلك الأمة وكيف كانت طريقة عملها بهذا القانون،
وأين التاريخ الصحيح لأعمالها؟ نقول له: نعم وجدت أمة عظيمة عملت بهذا الكتاب
الحكيم، واتخذته قانونًا أساسيًّا لها مدة كبيرة فصدقها الله وعده، وأنعم عليها
بالخلافة والسيادة في الأرض، وامتد سلطانها إلى مشارق الأرض ومغاربها،
وكانت أمة لا نظير لها في تاريخ العالم، وتاريخ أعمالهم المجيدة وطريقة تنفيذهم
لأحكام القرآن، وكيفية عملهم بها، كل ذلك ثابت ومحفوظ بصورة عديمة المثال؛
فإنه لا يوجد تاريخ لأمة من الأمم يبين عملها وتمسكها في كل شؤونها بقانونها مثل
تاريخ هذه الأمة، وهذه الأمة هي الرسول عليه السلام وأصحابه والتابعون لهم
بإحسان، وهذا التاريخ هو الحديث! فبالحديث يُعلم كيف عمل الرسول
وأصحابه بالقرآن، وبه يُعرف أن القرآن قانون قد عُمل به ونجحت أصوله
الإدارية والسياسية والمدنية والأخلاقية ... إلخ، وليس هو مجموعة نظريات
محتاجة للإثبات بالتجربة والتطبيق، وأما إذا عملنا برأي المنكرين للحديث فيضيع
تاريخ الإسلام الذهبي، ولا يقدر أحد أن يثبت أن القرآن قد عملت به أمة من الأمم
ونجحت في تأسيس حكومة مدنية مطابقة لتعليماته، فهل يرضى المسلمون بهذا؟ لا
والله لا المسلمون يرضون بهذا، ولا العلم ولا التاريخ يرضيان به ? فَمَالِ هَؤُلاءِ
القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ? (النساء: 78)؟.
أقسام الحديث:
ولننظر ماذا يوجد في الحديث، وأي مقدار منه يصلح أن يكون مجالاً للبحث
والمناقشة:
(1) لا يخفى أن القسم الأعظم من الحديث هو تاريخي، أعني أنه يشتمل
على أخبار الرسول عليه السلام وأصحابه الكرام ووقائعهم وبيان جليل أعمالهم،
وهذا القسم غير قابل للبحث والمناقشة عند كل ذي عقل سليم؛ لأنه عبارة عن جزء
من تاريخ العالم مثل سائر تواريخ الأمم، إلا أنه يمتاز عنها بصحة المأخذ، وضبط
الرواية وتسلسل الأسانيد، ومطابقتها لأصول النقد، بحيث إن هذا الوصف لا
يشاركه فيه تاريخ أمة من الأمم، لا الرومان ولا الفرس ولا اليونان ولا الهند ولا
مصر ... إلخ.
(2) والقسم الثاني أخلاقي تهذيبي يحتوي على الحِكَم والآداب والنصائح
¥