مثل مدح الصدق والعدل والإحسان والاتحاد والتعاون وسائر الفضائل والحث عليها،
وذم الكذب والظلم والفسق والفساد وسائر الرذائل والصد عنها، فهذه الأمور
تؤيدها الفطرة الإنسانية، وأصولها موجودة في القرآن فهل فيها شيء يستحق الرد؟
(3) العقائد أصول العقائد مذكورة في القرآن مثل التوحيد والصفات
الإلهية والرسالة والبعث وجزاء الأعمال، ولا يوجد في الحديث الصحيح إلا ما
يؤيد هذه الأصول ويوضحها ويقررها، أو يكون من جزئياتها ونظائرها، ولا يوجد
فيها ما يكون مخالفًا لعقائد القرآن أو زائدًا عليها، بحيث لا يكون له أصل في
القرآن، وكل ما يستشكل من الأحاديث الصحيحة في العقائد تجد مثلها في القرآن،
ويجري فيها ما يجري في القرآن من التفويض أو التأويل حسب اختلاف مدارك
الأفهام والطبائع الإنسانية، فمنها ما يقبل التسليم والتفويض، ومنها ما لا يقنعه إلا
التأويل الموافق لعقله والذي يطمئن به قلبه، وأما الأحاديث التي فيها مخالفة للقرآن
أو العقل السليم فلا تجدها إلا من الموضوعات [2] والواهيات، ومثلها لا يجوز
ذكرها فضلاً عن التمسك بها، وهذا بإجماع المسلمين، وفوق هذا العقد أجمع
المسلمون أيضًا على أن العقائد لا تثبت إلا بالقرآن؛ لأن مبنى العقائد على اليقين،
واليقين لا يحصل إلا بالوحي المتواتر وهو القرآن أو الحديث المتواتر؛ ولكن
الحديث المتواتر حسب تعريف الأصوليين وشروطهم غير موجود، فرجع الأمر في
العقائد إلى القرآن وحده، وهذا الإجماع إنما حصل لعلمهم أن الاحاديث الصحيحة
ليس فيها ما يعارض العقائد القرآنية أو يكون زائدًا مستقلاًّ عليها.
(4) الأحكام: هذا القسم أكثره ثابت بالأحاديث المستفيضة المشهورة،
وهي ما رُويت بطرق كثيرة صحيحة؛ ولكنها لم تبلغ حد التواتر، وبعضه بالآحاد
ولكنها صحاح، وأما الاحاديث الضعيفة فقد أجمع المحدثون والفقهاء أنها لا تقبل
في الأحكام [3]، والمحققون لا يقبلونها في غير الأحكام أيضًا.
فأما الاحتجاج بالخبر المستفيض المشهور فلا يتصور وجود عاقل يُنكر ثبوت
الحكم بمثل هذا الخبر ولزوم العمل لمن يبلغه، وإلا بطل نظام العالم، فهذه قوانين
الحكومات، إذا نُشرت في عدة جرائد معتبرة يلزم العمل بها لكل أحد من رعايا تلك
الحكومة، ولا يسعه الاعتذار بأنها لم تبلغه بالتواتر.
وأما الآحاد الصحاح فكذلك العمل بها جارٍ في سائر أنحاء العالم إذا أتانا رجل
معتبر، وبلَّغنا أن فلانًا يطلبك فحالاً نلبي طلبه، ولا نسأله أن يأتينا بالشهود على
صحة قوله، إلا إذا وُجدت هناك قرينة مانعة عن قبول خبره فحينئذ نتثبت قبل
الذهاب.
وهكذا الأمر في الأحاديث الآحادية الصحيحة: تقبل في الأحكام ويعمل بها ما
لم يوجد أمر مانع من قبولها مثل كونها مخالفة للقرآن أو الحديث المشهور، أو
كونها متروكة العمل في زمن الخلفاء الراشدين والصحابة، ففي هذه الحالة يحق
لكل عالم أن يتوقف عن العمل بها، وأن يبحث عنها إلى أن يزول الإشكال ويطمئن
إليه الخاطر. وأما ترك العمل بالآحاد الصحاح مطلقًا من غير وجود علة مانعة من
قبولها فغير معقول ومخالف لما هو جار في سائر المعاملات الدنيوية.
السنة مأخوذة من القرآن:
على أننا نعتقد مثل كثير من العلماء المحققين أن الأحكام التي توجد في
الأحاديث الصحيحة هي مأخوذة ومستنبطة من القرآن الكريم، استنبطها النبي عليه
السلام من القرآن بتأييد إلهي، وشرح رباني، ولذلك يجب علينا قبولها والعمل بها
بشرط ثبوتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الفهم والاستنباط يسمى في
اصطلاح القرآن تارة (تبيينًا) وتارة (إراءة) قال الله تعالى: ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ? (النحل: 44) وقال جل شأنه:
? إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ? (النساء:
105).
تقصير العلماء في خدمة القرآن:
الحق يقال إن علماءنا قصَّروا في خدمة القرآن من هذه الناحية، أعني أنهم لم
يُؤلِّفوا كتبًا كافية في علوم القرآن - أعني عقائد القرآن، وفقه القرآن، وأخلاق
القرآن، وسياسة القرآن إلى غير ذلك - بل نبذوه وراءهم ظهريًّا، وصدقت علينا
¥