الآية ? وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً ? (الفرقان:
30) والحال أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقدمون القرآن على كل شيء في
استنباطاتهم واستدلالاتهم؛ ولكن عصرهم لم يكن عصر تدوين وتأليف ولهذا لم
يؤلفوا فيه الكتب؛ وإنما كان هذا من فرائض الذين جاءوا بعدهذم؛ ولكنهم غفلوا
عن أداء الفرض واشتغلوا بآراء الرجال والحكايات الإسرائيلية والمسائل الخلافية
والجدل، والسبب في ذلك أن القرآن الكريم ليس مرتبًا على الأبواب، فيصعب
على كثير من الناس البحث عن مطلوبهم فيه، حتى المسائل المنصوصة فيه،
فضلاً عن الاستنباط منه، والعلماء الذين ألَّفوا الكتب في أحكام القرآن أيضًا تبعوا
ترتيب التفاسير، ولم يرتبوها على الأبواب فبقيت الصعوبة كما كانت، ولما كانت
كتب الحديث والفقه والفتاوى مبوبة مرتبة انصرف الناس بسهولة إلى الأخذ منها،
وتركوا النظر والتدبر في القرآن والرجوع إليه قبل كل شيء حين الاستنباط
والاستدلال، والخلاصة أن الحاجة داعية إلى أن يوجه علماؤنا عنايتهم إلى تأليف
كتب مبسوطة سهلة مبوبة في علوم القرآن [4] ويبينوا وجه التوفيق والارتباط بين
الآيات والأحاديث الثابتات، ويقربوها لأفهام أهل هذا العصر؛ وبذلك يخدمون
الدين خدمة كبيرة، ويكون ذلك أكبر باعث لاتحاد كلمة المسلمين، وصيانة الشبان
عن الإلحاد والمروق من الدين وما نظنهم إلا فاعلين ذلك إن شاء الله.
معنى السنة والفرق بينها وبين الحديث:
كنا عقدنا مقالنا هذا لبيان السنة والدعوة إليها؛ ولكن اقتضت الحال أن نبحث
أولاً عن الحديث الذي هو أعم من السنة، وإذ انتهى ذلك فلنبحث في معنى السنة،
ولنذكر الفرق بين السنة والحديث؛ فإن كثيرًا من الناس لا يفرقون بينهما
ويجعلونهما في منزلة واحدة، وينشأ من ذلك ضرر كبير.
الحديث كل واقعة نُسبت إلى النبي عليه السلام ولو كان فعلها مرة واحدة في
حياته الشريفة، ولو رواها عنه شخص واحد، وأما السنة فهي في الحقيقة اسم
ًللعمل المتواتر - أعني كيفية عمل الرسول عليه السلام - المنقولة إلينا بالعمل
المتواتر، بأن عمله النبي عليه السلام ثم من بعده الصحابة، ومن بعدهم التابعون
وهلمَّ جرا، ولا يُشترط تواترها بالرواية اللفظية، فيمكن أن يكون الشيء متواترًا
عملاً ولا يكون متواترًا لفظًا، كذلك يجوز أن تختلف الروايات اللفظية في بيان صورة
واقعة ما فلا يسمى متواترًا من جهة السند؛ ولكن تتفق الروايات العملية على كيفية
العمل العمومية فيكون متواترًا عمليًّا، فطريقة العمل المتواترة هي المسماة بالسنة
وهي المقرونة بالكتاب في قوله عليه السلام: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما
تمسكتم بهما: كتاب الله تعالى وسنة رسوله) وهي التي لا يجوز لأحد من المسلمين
كائنًا من كان تركها أو مخالفتها وإلا فلا حظ له في الإسلام.
مثلاً: إذا علمنا أن النبي عليه السلام من حين فُرضت الصلوات الخمس
واظب عليها مدة حياته الشريفة في هذه الأوقات المعلومة، وبهذه الهيئة المعروفة،
وكذلك الصحابة بعده، والتابعون بعدهم، ثم المسلمون إلى يومنا هذا سواء منهم
الذين وجدوا قبل تدوين كتب الحديث، والذين وجدوا بعدهم، واتفق المسلمون قرنًا
بعد قرن مع اختلاف أعصارهم وبلدانهم وأفكارهم ونِحَلهم على أن النبي عليه السلام
والصحابة كانوا يصلون خمس مرات في اليوم والليلة في هذه الأوقات المعلومة بهذه
الصورة المخصوصة وبهذه الأركان - فهذا هو التواتر العملي وإنكاره مكابرة بل
جنون.
لا يتجرأ عاقل أن يقول: إن تعيين هذه الأوقات للصلاة أو هذه الأركان، هو
من وضع المحدِّثين أو الفقهاء وقلدهم فيها المسلمون؛ لأننا لو فرضنا أن كتب الحديث
والفقه ما وجد منها شيء ففي تلك الحالة أيضًا كانت الصلاة تكون معروفة بهذا
الشكل منقولة إلينا بالتواتر العملي، وكذلك الأمر في الزكاة والصيام والحج وسائر
الفرائض والمحرمات.
وتدوين كتب الحديث إنما كان بمنزلة تسجيل لتاريخ هذا العمل
المتواتر بصورة صحيحة محفوظة، فهل هذا التسجيل لكونه وقع في القرن
الثاني أو الثالث يُسقِط ذلك التواتر العملي عن درجة الاعتبار أو ينقص من
قيمته؟ كلا بل زادت قيمته ودرجته بهذا التسجيل التاريخي الخالد الذكر العديم
المثال.
حقيقة السُّنة:
¥