قد ظهر مما تقدم أن بين الحديث والسُّنة فرقًا كبيرًا، فالحديث هو الرواية
اللفظية لأقوال الرسول عليه السلام وأعماله وأحواله، وأما السنة فهي الطريقة
المتواترة للعمل بالحديث، بل بالقرآن أيضًا.
مثلاً ورد في القرآن الأمر بإقامة الصلاة وبين فيه بعض تفاصيلها أيضًا،
فالرسول عليه السلام صلى بموجب ذلك وقال لنا: (صلوا كما رأيتموني أصلي)
واستمر على تلك الكيفية وكذلك الصحابة فالتابعون وسائر المسلمين، وهكذا الأمر في
الصيام والزكاة والحج وسائر الأوامر القرآنية، فالصورة العملية التي رسمها الرسول
عليه السلام لألفاظ القرآن هي السنة، وهي في الحقيقة تفسير عملي للقرآن، وهي من
هذه الحيثية أعلى من الروايات اللفظية بمراتب كثيرة.
الألفاظ المرادفة للسنة:
وردت في القرآن الكريم وكلام الرسول وأقوال الصحابة كلمات أخرى مؤدية
لمفهوم السنة مثل السبيل، والصراط المستقيم، والأسوة الحسنة، وكلها تفيد معنى
الطريقة المسلوكة ومعنى الاتباع، يعني أن الطريق الذي سلكه النبي عليه السلام
وأصحابه والمؤمنون هو السنة، هو السبيل، هو الصراط المستقيم، وهذا المفهوم
هو الذي وضع له إمام أهل السنة مالك رحمه الله كلمة (الموطأ) وسمى به
مجموعة رواياته [5] ومعنى الموطأ في اللغة الطريق الممهد الذي وطئه الناس كثيرًا،
فكأنه يعني به الطريق الذي مهده ووطأه النبي عليه السلام وأصحابه الكرام، وهو
طريق الإسلام والتفسير الصحيح للقرآن.
الكتاب والسنة:
كثيرًا ما ترد في الحديث كلمتا (الكتاب والسنة) مقرونتين كما ورد في
الوصايا النبوية الشريفة قبيل وفاته (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما
كتاب الله تعالى وسنة رسوله) فالمراد بهذه السنة المقرونة بالكتاب هو عمل
الرسول المتواتر، وطريقه المسلوك الممهَّد الذي هو التفسير العملي الصحيح للقرآن،
وليس المراد بها كل رواية رويت بالسند اللفظي! فلان عن فلان.
السنة والبدعة:
لعلك فهمت الآن حقيقة السنة التي ورد الأمر باتباعها والوعيد الشديد لتاركها
المخالف لها كقوله عليه السلام: (عليكم بسنتي) وقوله: (من رغب عن سنتي
فليس مني) فهذا الشيء أعني السنة يقابلها (البدعة) ومعناها اللغوي (الأمر
المستحدث) والشرعي ما بينه النبي عليه السلام بقوله: (من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رد) وهاتان الكلمتان تستعملان دائمًا ككلمتين متضادتين؛ لأن
السنة هي الطريق الذي كان عليه الرسول وأصحابه، والبدعة هي ترك ذلك
الطريق والانحراف عنه وسلوك طريق آخر مخترع [6]، فلهذا كانت الأولى هداية
والثانية ضلالة.
أثر السنة في جمع كلمة المسلمين:
المسلمون متفقون في أشياء كثيرة، ومختلفون في أشياء أخرى، وهذا
الاختلاف يرجع ابتداؤه إلى القرن الأول، ولكن إذا دققنا النظر وجدنا أن المسائل
التي اختلفوا فيها هي من قبيل النظريات التي لا يمكن فيها التمسك بالشهادة العلمية،
مثلاً أكبر المسائل النزاعية بين أهل السنة و الشيعة هي مسألة الخلافة هل هي
بالنص أو بشورى المسلمين؟ وأهم المسائل الخلافية بين المعتزلة و الأشاعرة
والماتريدية هي رؤية الله تعالى يوم القيامة، هل تكون بهذه الأبصار أم لا؟ فهذه
وأمثالها كلها أمور نظرية، أعني أنها ليست من الأمور العملية المحسوسة، ولا
يتأتى فيها شهادة العمل [7]، وأما المسائل العملية كالصلاة والزكاة والصيام والحج
والجهاد فلم يختلف المسلمون فيها اختلافًا كبيرًا، والسبب في ذلك أن سنة الرسول
عليه السلام كانت دائمًا نصب أعينهم ومثلاً أعلى لهم، وهذا من الخصائص
الكبرى للإسلام.
وأما الاختلاف في مثل الفاتحة خلف الإمام، ووضع اليدين في الصلاة،
ورفع اليدين، فإذا طرحنا الغلو والتعصب من الفريقين رجع الأمر إلى المناقشة في
الأفضلية، وكذلك الأمر في المسائل الاجتهادية والأمور المتجددة في المعاملات
والقضاء والسياسة الإسلامية، فالاختلاف فيها إنما هو في اختيار الجانب الراجح
حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة وعقلية الشعوب الإسلامية.
معيار السنة والبدعة:
من القواعد المسلمة في جميع الأديان والمذاهب، أن أحسن العصور لكل دين
ومذهب إنما هو عصر صاحب المذهب نفسه، ثم عصر خلفائه وأصحابه الذين
¥