بهذا اللفظ:] نَعِيمٌ مُّقِيمٌ [(التوبة: 21) ولا ريب أن النعيم المقيم هو وغير
المجذوذ شيء واحد في الدلالة، زد على ذلك أن الله تعالى أخبر أن أهل النار لا
يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط، وهذا نحو قوله: لا يدخلونها أبدًا،
وليس بعد هذا قاطع لأطماع الطامعين في الجنة الهاربين من النار، فقد عبر لهم
بأعظم محال وهو دخول جسم عظيم في خرق صغير، ومتى يلج الجمل في سم
الخياط ويسوغ في العقل دخوله فيه حتى يسوغ دخول الجنة لمن ليس من أهلها ولم
يخلق لها؟ أيكذب الله نفسه أم تكون عبثًا حكمته؟ يقول:] وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ [(الأعراف: 179)، ثم يعيدهم إلى الجنة، هذا محال، وقد
ذكرنا ما قالوه في الاستثناء (بإلا ما شاء الله) ورد أقوالهم كلها، ولم يختر إلا
الوجه الذي يدل على مخالفة (إلا) لما قبلها، وذِكر المشيئة هنا وفي هود دال
على ثبوت هذه الصفة لله تعالى لا غير، وأنه لا مكره له فيما يفعل، وقد أكد هذا
المعنى في سورة هود بقوله تعالى:] إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [(هود: 107)
وكثيرًا ما تذكر المشيئة في القرآن لهذا الغرض؛ كقوله تعالى:] وَمَا تَشَاءُونَ
إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ [(الإِنسان: 30)، ومن أهل العربية من قال في استثناء سورة
سبح:] سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ [(الأعلى: 6 - 7) - وهو كالذي هنا
- لم يشأ الله أن تنسى شيئًا، وذكر ابن جرير هذا القول، وقال - وهو كقوله -:
] خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ [(هود: 107)، ولا
يشاء، قال: وأنت قائل في الكلام لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء
أن أمنعك والنية ألا تمنعه، ولا تشاء شيئًا، وعلى هذا مجاري الإيمان يستثنى فيها
ونية الحالف التمام اهـ.
وترى المحدثين يقولون في السند: صحيح إن شاء الله. ويذكرونها غير
مقصود بها تعليق شيء عليها، بل يذكرونها فيما وقع تبركًا واستذكارًا أن ما شاء الله
كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه لا يشاء إلا ما وافق الحكمة.
فأنت - أيدك الله - ترى أن الأخبار عن الصحابة غير ثابتة، ولو ثبتت لما
كان فيها دليل على الفناء، بل تؤول على الخارجين منها، وترى الآيات القرآنية
مصرحة بخلود وأبدية أهل النار فيها، وأن الجنة محرمة عليهم، ودخولها محال
عليهم كدخول الجمل في سَمِّ الخياط، ولئن لم تدل هذه الآيات على كثرتها وذكر
ألفاظ بقاء أهلها فيها وتنوعها من الخلود للإقامة للأبدية إلى غير ذلك، لئن لم تدل
على بقاء النار وعدم فنائها بالمطابقة، فلعمر الله لقد دلت عليه باللزوم والاضطرار،
كدلالة وجود السقف على الجدار، فما داموا خالدين فيها أبدًا فهي خالدة أبدًا، إلا إن
ادَّعى مدع أن خالدين، وأبدًا، ومقيمًا، وما شاكلها لا تدل دائمًا على البقاء وعدم
التحول فيكون لنا إذن أن نرد هذه الدعوى بالكتاب والسنة أيضًا واللغة التي بها نزل
كتاب الله، وسننقض ما عدده ابن القيم - رحمه الله - من الأوجه في فناء النار، وما
أورده من الشبه إن اتسع المنار لذلك، وما قصدنا إلا إزالة شُبَه الذين يغترون بقوله،
والبقية تأتي إن شاء الله.
عبد الظاهر محمد أبو السمح
معلم - برمل الإسكندرية
(المنار)
نشرنا هذه الرسالة بنصها، وفيها تكرار وتطويل بالاستطراد ليس من
الموضوع، كالكلام في شدة عمر في الدين وضربه لأبي هريرة على تبليغ الصحابة
حديثًا صحيحًا حدَّث به بعد ذلك، ونقله أئمة الحديث وغيرهم حتى الكاتب لمن
يخشى عليهم من الغرور والاتكال ما لم يكن يخشى على أصحاب الرسول صلى الله
عليه وسلم ورضي عنهم، وكان جمهور الصحابة ينكرون على عمر هذه الشدة،
ولا حاجة إلى هذه الخطابيات مع إنكاره صحة الرواية عن عمر وعدم الاحتجاج
بقوله، فإن دفع هذه الخطابة سهل بأن يقال: إذا كان عمر قد قال ذلك فما قاله
وحاله ما ذكر الكاتب إلا لثبوته عنده واعتقاده أنه لا فتنة في ذكره، وكذا أبو هريرة،
فلعله في بقية الرد يجتنب التكرار والاستطراد وحكاية أقوال ابن القيم على
الطريقة التي جرى عليها في هذه النبذة، فإن القراء لا يراجعونها، ليفهموا المراد،
¥