بحكمته وعلمه وعدله في آية واحدة، ولا يبعد هذا بهم فقد ورد أن بعض الصحابة
لما سمع قوله تعالى:] الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ [(الأنعام: 82) قالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه
وسلم: (ذاك الشرك) وقرأ] إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [(لقمان: 13) فلولا أن
فسرها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآية الأخرى ليئسوا وقنطوا، ومثل ذلك
ما جرى عند نزول قوله تعالى:] وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ [
(البقرة: 284) إلخ، ثم أنزل الله لهم:] لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [
(البقرة: 286) إلخ.
إذا تقرر هذا وعلم أن الإنذار في آية (الأنعام) بالخلود شديد، وأن السكوت
عليه قصور لو كان في كلام الناس لعد معيبًا، فكيف بأبلغ الكلام الذي أنزل رحمة
للعالمين؟ فهل بعد هذا يستنكر ذو فهم وتأمل في كلام الله أن يجمع بين وعد ووعيد
ونذارة وبشارة في آية واحدة، على أن النذارة بالخلود لمن يستحقونه كما أشار بذلك
الحكيم للحكماء الذين يفهمون وأن البشارة لمن يستحقون ممن عرفنا خبرهم في القرآن
والأحاديث، والله أعلم بهم وبما اقترفوا وجزاء ما كانوا يقترفون، هذا ما أفهمه في
الآية مع استحضاري الآيات الأخرى والأحاديث ولم يشف غليلي ما رأيته من وقف
المتوقف وتأويل المتأول، وهذا هو وجه الاستثناء لا ما قالوا من أنه يأتي على ما في
القرآن، حاش لله أن يكون خبر واحد يهدم بناء أخبار أدعمت على العلم والحكمة حتى
لو كان مجردًا عما أشرنا إليه من وجوه البلاغة والإعجاز، ولَأن نؤوله ليوافقها لكان
أسهل من أن نؤولها كلها.
ومن العبر أنه قد حضر عندي أخ في الله من أهل العلم وتحاورنا في
الموضوع فكان هو فنائيًّا وأنا بقائيًّا، فما زال يؤول كل آية جئت بها دالة على
البقاء بحذق وبراعة (على طريقة الأزهريين) حتى جئت له بآية الأعراف] إِنَّ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى
يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ [(الأعراف: 40) الآية، فوجم فقلت: ماذا؟ أجب،
فقال: انتظر، ثم بعد هنيهة قال - ويا ليته ما قال -: نعم هو كما قال الله تعالى ما
دامت النار لا يدخلون الجنة ولكنها ستفنى، فقلت: ثم ماذا بعد ما تفنى أيدخلون الجنة
وتزول الاستحالة بفناء النار؟ فضحك من تأويله، فلينظر الناصح لنفسه البصير بكلام
ربه وليجعل الرحمة في محلها كما أخبر الله بها عن نفسه، وينظر إلى المشيئة بعين
الحكمة ولا ينظر إلى صفة دون صفة بعين عشواء، وإذ قد ألمعنا إلى ذكر شيء من
وجوه الاستثناء فلنتكلم على المشيئة المستثناة , وإن كانت هي أحق بالكلام قبل
الاستثناء لذكرها أول الفصل ثانية.
أخبرنا الله تعالى في آيات كثيرة أن مشيئته موافقة لحكمته، وأنه لا يشاء عبثًا
ولا ظلمًا قال تعالى:] يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [[6]
(الإِنسان: 31) فهذه الآية تدل دلالة صريحة لا مجال للشك فيها على أنه لا
يدخل في رحمته إلا غير الظالمين، وإنما الذي عرَّفَنا أنه لا يشاء إلا هم قوله:
] والظالمين أعد لهم عذابًا أليما [فالناس قسمان: ظالم وعادل، والدار داران: جنة
ونار، فلما ذكر الظالمين وما أعد لهم عرفنا أن القسم الذي شاء إدخاله في رحمته
ضدهم وهم المؤمنون أو المقسطون أو كما تسميهم، أفلا يصح أن ننزل المشيئة
المذكورة في آية (الأنعام وهود) على هذا التقسيم الظاهر، وأن الله لا يشاء فناء
النار الذي يهدم كل زجر ووعيد في القرآن ويُطمِع كل ذي كفر وبهتان وجبار عنيد
وشيطان.
ومثل هذه الآية قوله تعالى:] لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ [(الفتح:
25) فهل يظن عاقل أن معنى هذا: يدخل الله كافرًا الجنة أو مؤمنًا النار، أم
أنه لا يفعل إلا ما اقتضته حكمته التامة، وأن مشيئته في هذه الآية وفي أمثالها مقيدة
بمثل آية:] هل أتى على الإنسان حين من الدهر [وغيرها مما سنذكره، قال
¥