تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وَقَدْ ظَهَرَ سِرّ هَذَا التّفْضِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ فِي انْجِذَابِ الْأَفْئِدَةِ وَهَوَى الْقُلُوبِ وَانْعِطَافِهَا وَمَحَبّتِهَا لِهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ فَجَذْبُهُ لِلْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ جَذْبِ الْمِغْنَاطِيسِ لِلْحَدِيدِ فَهُوَ الْأَوْلَى بِقَوْلِ الْقَائِلِ

محَاسِنُهُ هَيُولَى كُلّ حُسْنٍ وَمِغْنَاطِيسُ أَفْئِدَةِ الرّجَالِ

وَلِهَذَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ مَثَابَةٌ لِلنّاسِ أَيْ يَثُوبُونَ إلَيْهِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْوَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْطَارِ وَلَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا بَلْ كُلّمَا ازْدَادُوا لَهُ زِيَارَةً ازْدَادُوا لَهُ اشْتِيَاقًا.

لَا يَرْجِعُ الطّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُهَا حَتّى يَعُودَ إلَيْهَا الطّرْفُ مُشْتَاقًا

فَلَلّهِ كَمْ لَهَا مِنْ قَتِيلٍ وَسَلِيبٍ وَجَرِيحٍ وَكَمْ أُنْفِقَ فِي حُبّهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ وَرِضَى الْمُحِبّ بِمُفَارَقَةِ فِلَذِ الْأَكْبَادِ وَالْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ وَالْأَوْطَانِ مُقَدّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْوَاعَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَتَالِفِ وَالْمَعَاطِفِ وَالْمَشَاقّ وَهُوَ يَسْتَلِذّ ذَلِكَ كُلّهُ وَيَسْتَطِيبُهُ وَيَرَاهُ - لَوْ ظَهَرَ سُلْطَانُ الْمَحَبّةِ فِي قَلْبِهِ - أَطْيَبُ مِنْ نِعَمِ الْمُتَحَلّيَةِ وَتَرَفِهِمْ وَلَذّاتِهِمْ

وَلَيْسَ مُحِبّا مَنْ يُعَدّ شَقَاؤُهُ عَذَابًا إذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبِيبُهُ

وَهَذَا كُلّهُ سِرّ إضَافَتِهِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ وَطَهّرْ بَيْتِيَ [الْحَجّ 26] فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ الْخَاصّةُ مِنْ هَذَا الْإِجْلَالِ وَالتّعْظِيمِ وَالْمَحَبّةِ مَا اقْتَضَتْهُ كَمَا اقْتَضَتْ إضَافَتُهُ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ إلَى نَفْسِهِ مَا اقْتَضَتْهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إضَافَتُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إلَيْهِ كَسَتْهُمْ مِنْ الْجَلَالِ وَالْمَحَبّةِ وَالْوَقَارِ مَا كَسَتْهُمْ فَكُلّ مَا أَضَافَهُ الرّبّ تَعَالَى إلَى نَفْسِهِ فَلَهُ مِنْ الْمَزِيّةِ وَالِاخْتِصَاصِ عَلَى غَيْرِهِ مَا أَوْجَبَ لَهُ الِاصْطِفَاءَ وَالِاجْتِبَاءَ ثُمّ يَكْسُوهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ تَفْضِيلًا آخَرَ وَتَخْصِيصًا وَجَلَالَةً زَائِدًا عَلَى مَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْإِضَافَةِ وَلَمْ يُوَفّقْ لِفَهْمِ هَذَا الْمَعْنَى مَنْ سَوّى بَيْنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَزَعَمَ أَنّهُ لَا مَزِيّةَ لِشَيْءِ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ وَإِنّمَا هُوَ مُجَرّدُ التّرْجِيحِ بِلَا مُرَجّحٍ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَيَكْفِي تَصَوّرُ هَذَا الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ فِي فَسَادِهِ فَإِنّ مَذْهَبَنَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ذَوَاتُ الرّسُلِ كَذَوَاتِ أَعْدَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنّمَا التّفْضِيلُ بِأَمْرِ لَا يَرْجِعُ إلَى اخْتِصَاصِ الذّوَاتِ بِصِفَاتِ وَمَزَايَا لَا تَكُونُ لِغَيْرِهَا وَكَذَلِكَ نَفْسُ الْبِقَاعِ وَاحِدَةً بِالذّاتِ لَيْسَ لِبُقْعَةِ عَلَى بُقْعَةٍ مَزِيّةٌ الْبَتّةَ وَإِنّمَا هُوَ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصّالِحَةِ فَلَا مَزِيّةَ لِبُقْعَةِ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمِنًى وَعَرَفَةَ وَالْمَشَاعِرِ عَلَى أَيّ بُقْعَةٍ سَمّيْتهَا مِنْ الْأَرْضِ وَإِنّمَا التّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الْبُقْعَةِ لَا يَعُودُ إلَيْهَا وَلَا إلَى وَصْفٍ قَائِمٍ بِهَا وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ رَدّ هَذَا الْقَوْلَ الْبَاطِلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الْأَنْعَامُ 124] أَيْ لَيْسَ كُلّ أَحَدٍ أَهْلًا وَلَا صَالِحًا لِتَحَمّلِ رِسَالَتِهِ بَلْ لَهَا مَحَالّ مَخْصُوصَةٌ لَا تَلِيقُ إلّا بِهَا وَلَا تَصْلُحُ إلّا لَهَا وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمَحَالّ مِنْكُمْ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير