تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إنها المعجزة التي تخاطب كل الناس العامي الذي يقرؤه لوحده فيعرف الغاية منه، والعابد المتنسك الذي يقرؤه في صلاته فتلامس مواعظه شغاف قلبه، وتفيض على حنايا روحه، والعالم المتبحر الذي يكتشف كل يوم فيه علماً يبهر العقول، ويستولي على الألباب، ولكن أصحاب المصالح والأهواء في كل عصر وجيل كانوا يصمّون آذانهم عن الهدى، فقالوا عن هذا القرآن بأنه شعر أو سحر أو كهانة أو إفك أو افتراء أو أساطير، وتقلبوا بين أنواع مختلفة من الادعاءات والافتراءات التي تفضح مراميهم، وتكشف عن اضطرابهم، ولم ينل ذلك من كتاب الله عز وجل بل تقبله الناس وآمنوا به، وانتشر نوره في أصقاع المعمورة شرقاً وغرباً ولدى مختلف الأمم واندثر الذين كانوا يحاربونه وانقلبوا خائبين " خسروا الدنيا والآخرة "

وما أشبه الليلة بالبارحة، يتكالب شياطين الإنس والجن من الشرق والغرب على هذه الأمة لإذلالها ونهب خيراتها وثرواتها، وتجريدها من خصائصها ومقوماتها، ويوظفون لذلك كل الوسائل والإمكانات المادية والفكرية، فقاموا بزرع كيان غريب في جسم الأمة لكي لا تستقر على حال، ولا تهدأ من اضطراب، ثم نظروا فأدركوا أن الأهم من كل ذلك هو إفراغ الأدمغة والعقول، ثم إعادة شحنها من جديد بما يتلاءم مع مصالحهم وأطماعهم، فجندوا لذلك بعض العقول وفتحوا المدارس وأتاحوا الفرص لتربية تلاميذ مخلصين غمروهم بالإنعام، ومكنوهم من كل وسائل الأسفار والترحال والتمتع بالملذات، ثم طيّروا لهم أسماء الشهرة والمجد وأطلقوا عليهم ألقاب العلم والفكر وأصعدوهم إلى منابر الثقافة، ودفعوهم إلى سدة القيادة.

وإذا كان كل إناءٍ بما فيه ينضح، فقد كانت الآنية مملوءة، والقُرَب طافحة، فكانت الجرائد والمجلات والصحف والكتابات تعبر عن هذا الحال الذي آل إليه أمر الأمة، فمن طاعن في اللغة العربية لأنها لغة البدو، ومن طاعن في تاريخنا بأنه تاريخ القتل والدماء ومن طاعن في عقولنا لأنها تنتمي إلى العقل السامي الساذج، ومن طاعن في قرآننا بأنه يتناقض مع الحفريات والآثار والتاريخ إلى آخر ما هنالك، وهي قالات رددها الغربيون حتى ملّوا فلم يلتفت إليها أحد، ثم رأوا أن ذلك قد يكون لأنهم موسومون بالعداوة وموصوفون بالغزاة والمستعمرين، فاختاروا من أبناء الأمة من يقوم عنهم بتلك الهمة.

لقد سبب هؤلاء الأبناء لهذه الأمة كثيراً من المتاعب إلى جانب ما يمارسه المحتل من إبادة وقتل للأنفس والعقول، ففي كل فترة تثور ضجة أو معركة حول معتقد من معتقداتنا، أو مقدس من مقدساتنا تناله ألسنة هؤلاء أو أقلامهم، ويضيع كثير من الوقت والجهد في السجال والرد والجدال والنقض، ثم كانت النتائج في الغالب أن يتوب العاقّون ويتراجعوا عن أخطائهم ويعترفوا بعثراتهم أو نزواتهم.

لقد كان القرآن الكريم هو الهدف ألأول الذي حاول المغرضون أن يطعنوا فيه، لأنه القاعدة المتينة التي تظل – رغم ما تعانيه الأمة من ذل وهوان – تشد الأمة إلى الوحدة، وتردها إلى الوئام، فكانت الشبهة تثار تلو الشبهة، وما تندثر ضجة وأزمة حتى تُطل برأسها أخرى، والطباخ واحد، والمادة واحدة، والاختلاف يكون في التوابل والألوان، وأشكال الدعاية والإعلان.

إن كل الشبهات التي تحاك اليوم حول القرآن الكريم لم تخرج عما ذكره القرآن نفسه وفنده بكلمات موجزة بليغة، والمؤمن يكتفي بهذا الذي ذكره القرآن دون حاجة إلى مزيد بيان.

إلا أن المشكلة ليست في الخوف على ذلك المؤمن المطمئن الحنيف، وإنما على ذلك الذي تتقاذفه الأمواج، وتتجاذبه التيارات ويخدعه البريق، ويركض وراء كل سراب، ذلك هو من يحتاج إلى فصول مختلفة من القول والبيان، وضروب من الدليل والبرهان، لكي تحجزه عن الانخراط وراء الهذيان. وإن أهم ما يمكن أن يحول دون ذلك الشاب المنبهر بالبهرج الظاهر من الحضارة الغازية هو الكشف عن مكنونها العفن، ومضمونها النتن، وما آلت إليه أحوال أهلها، وما انتهت إليه صروف دهرها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير