تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أم واجبنا نحن المسلمين فعلينا أن نقارع الخصم بنفس أسلحته، وعلينا أن لا نكتفي بالإدانة والرفض والتسفيه، لأن ذلك إذا لم يقترن بالحجة والبرهان يكون ضرره أكثر من نفعه، ولا بد من قراءة مصادر العلمانيين ومراجعهم والاطلاع على أحدث ما يتبجحون به، مع العلم بان أحدث ما يتبجحون به مرفوض في بيئته، ومهجور في عقر داره. لقد قلت كما قال الدكتور عبد العزيز حمودة بان العلمانيين أو الحداثيين يحسنون فن العرض والتغليف، يساعدهم على ذلك الاطلاع على اللغات الأجنبية التي تثري في نفس الوقت لغتهم العربية بسبب تفاعل اللغات، وتراكم التراكيب والكلمات، وتيسر النحت والاشتقاق الذي يتأتى بكثرة المتقابلات والمترادفات الحديثة والجديدة، والتي تغري الجيل الجديد، وتعزز ثقته بقدرة الخطاب العلماني على الإبداع والتجديد.

إننا في عصر تكون الغلبة فيه لمن يحسن الدعاية والإعلان في الغالب، وعلينا أن لا نزدري ذلك وأن نوليه كثيراً من الاهتمام إلى جانب ما نملكه من جوهر نفيس، وتراث عزيز، وحضارة باسقة. إن علماءنا السالفين لم يستهينوا بالأفكار الوافدة، والفلسفات الغازية، بل تفاعلوا معها وأتقنوها حتى بزوا أهلها، وفاقوا أعلامها، فنازلوهم عند ذلك منازلة الأقران، وصاولوهم مصاولة الشجعان فلم تمض سنوات قليلة حتى هُضمت العلوم المختلفة ثم أُعيد بناؤها من جديد بما يتلاءم مع مبادئ الإسلام ومثله العليا.

ونحن اليوم بحاجة إلى أن نمسك بالأفكار الجديدة من منابعها، ونتابع ما آلت إليه تطبيقاتها في واقعها، لكي نتمكن من رؤية حقيقية لأضرارها ومنافعها، فإذا قال العلمانيون: اللسانيات أو الهرمينوطيقا أو الإنتربولوجيا أو غير ذلك، فلا بد من وضع هذه الدعوات في عين الاعتبار، والبحث عن أًصولها، وقراءة أعلامها، وسنكتشف دائماً أن الحق لا يُعدم من أنصار، وأن الباطل دائماً ينهار، لأن الحق دائماً أبلج، والباطل دائماً لجلج. وهذه هي وصيتي الأولى.

أما الوصية الثانية: فهي أنني أرى أن البحوث الأكاديمية الفلسفية في أقسام الدراسات الإسلامية تولي اهتماماً لدراسة التراث أكثر من اهتمامها بدراسة الواقع المعاصر، وقد ترتب على ذلك أن تُركت الساحة للخطاب العلماني يسد الثغرة، ويملأ الفراغ، وكان لذلك انعكاسات خطيرة على الفكر والعلم والواقع، وخصوصاً في استقطاب أعداد كبيرة من أنصاف المثقفين الذين تغريهم المناهج بسبب عدم استنادهم على قاعدة أصولية متينة. ولا يعني ذلك أنني أدعو إلى التقصير في دراسة التراث، وإنما أدعو القائمين على توجيه الدراسات الأكاديمية إلى إقامة توازن بين الواقع والماضي، ونسج وشائج تواصل بين دراسة التراث والواقع المعاصر بما فيه من أطروحات جديدة، ومناهج حديثة. إن أكثر الأفكار الجديدة هي في حقيقتها ليست جديدة، وإنما أفكار قديمة تصاغ بقوالب جديدة، فلماذا لا نكون نحن هؤلاء الصُّياغ، لماذا نترك مهنة الصياغة لغيرنا مع أنها من أكثر المهن ثراءً وجلباً للأرباح.

إن ما أدعو إليه هو أن يكون الانطلاق من الواقع والحاضر إلى الماضي، ولكن الذي يحصل هو أن الدراسات الإسلامية لا تنطلق حتى من الماضي إلى الحاضر، وإنما تظل حبيسة الماضي دون أن تقيم أي صلة مع الحاضر والواقع المعاصر، وهو ما يجعلنا غرباء عن عصرنا، ويجعل غيرنا أكثر تآلفاً وتصالحاً ومودة معه، وبالتالي قبولاً منه.

إن المشاريع العلمانية التي تطرح نفسها باسم الواقع والإنسان والمصلحة والمغزى يمكن أن تواجَه ببدائل إسلامية تنفي عنها الزغل والخبث، وتستفيد من النافع والحسن. إن الإسلام ليس عقبة في وجه الواقع أو التطور وهو المعنى الذي يتضمنه قوله تعالى: "" ما جعل عليكم في الدين من حرج "" ولكنه في الوقت نفسه لا يترك الواقع هملاً دون رعاية أو هداية. إن مساحة الواقع في الإسلام واسعة جداً، وحرية الحركة له متاحة إلى تخوم بعيدة، ومرونة النصوص والأصول تفسح المجال لدفع الحرج والتواؤم مع تقلبات الأزمنة والأمكنة، وتملك إجابات مريحة لكل الأسئلة التي قد تؤرق الإنسان. ولكن مع هذه السعة وهذه المرونة والحرية فهناك سياج يلفّ الإسلام به الواقع، وهذا السياج هو الرحمة التي تعصم العقل وتحول دون الوقوع في هاوية الهوى والأنانية والنفعية.

إن الخطاب العلماني يريد أن يدمر هذا السياج – الدوغمائي بنظره - ليقتحم الغيب، ويزحزح هذه الحدود والثوابت لأنه يطمح إلى معرفة ما وراء هذا السياج، ولا يكتفي بالخبر الموثوق، ويأبى إلا أن يقتحم هذا السياج ويرتع في الحمى، ويتجاهل التجارب الإنسانية الطويلة الفاشلة في هذا المجال، ومهمتنا نحن المسلمين ليس في دفعه إلى الهاوية، وإنما في انتشاله منها كما علمنا نبينا المصطفى الرحمة المهداة للعالمين صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين

والحمد لله رب العالمين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير