2 – وعندما ينتهي العقل إلى الشك والعدمية واللاأدرية مع تمكن النوازع الغريزية والأرضية منه فإنه يصبح وحشاً جامحاً لا يمكن أن يقف في طريق رعوناته وشهواته وأهوائه شيء. وهذا ما حصل عبر مسيرة الفكر الأوربي على مستوى الأفراد وعلى مستوى الدول والمجتمعات، حتى سئم الإنسان نفسه، ولم يعد يشعر لوجوده معنى، لقد أصبح همه وغايته لا يتجاوزان الحدود التي وقف عندها عقله، فلم يفكر بعالم آخر للجزاء والحساب ولذلك فكل ما يمكنه أن يصل إليه من المتع الملذات يجد أن عليه أن يقتنصها بسرعة قبل أن تذهب منه، فترسخت الدنيوية " العلمانية " في قلبه، وتمكنت الشهوات من نفسه، وتفاقم ذلك بشدة حتى دفع البشر الثمن في حربين عالميتين أزهقت فيهما ملايين الأرواح عدا عن الملايين الأخرى التي أزهقتها الأمراض المفترسة، أمراض العلمانية والرأسمالية كالإيدز والقلق والاكتئاب والانتحار وغيرها، ولا يزال البشر ينتظرون الكثير من المآسي والكوارث التي ستكون نهايات لآخر ما توصلت إليه الدنيوية العلمانية الجامحة.
3 – هذه التجربة الغربية كان يُفترض أن تكون درساً وعبرة لنا نحن المسلمين بالذات، لأن ديننا الحنيف في الوقت الذي مجّد فيه العقل وأكد دائماً على دوره في عالم الشهادة وعالم المحسوسات، بين لنا ما لا يمكن للعقل أن يخوض فيه أو يقتحمه من عوالم الغيبيات كالآخرة وكنه الذات الإلهية وكنه صفاتها.
ولكن تواكبت عوامل مختلفة من استعمار وتخلف وجهل جعلت الدنيوية تجد طريقاً سهلاً إلى دنيا المسلمين، وتفسح لنفسها مكاناً في عقولهم وقلوبهم ومجتمعاتهم، حتى تسبب ذلك في اضطراب الفكر وبلبلة في العقل، وتحتاج الأمة إلى تضافر الجهود وتكاتف العلماء والمفكرين المخلصين للتخلص من آثارها والحيلولة دون تفاقمها.
إن أبرز ما تجلى من آثار سلبية للعلمانية كانت من حيث التعامل مع القرآن الكريم فظهرت دعوات تكتفي أولاً بالقرآن وتحيِّد السنة، بحجة أن السنة دخلها الوضع بشدة فلم يعد يمكن تمييز الصحيح فيها من غيره، ثم تطورت الدعوة إلى التخلص من القرآن تحت مسمى خفيف الصدمة هو فكرة " التاريخية " التي تعني في حقيقة الأمر "" إخضاع الأحداث والأفكار للصيرورة المادية الزمكانية النسبية "" وكان ذلك يعني بالنسبة للقرآن الكريم "" خضوعه لأثر الزمان والمكان والمخاطب بشكل مطلق "" أي بدون دليل.
4 – هذه التاريخية سلك إليها الخطاب العلماني مسالك يستأنس بها المسلمين، فاستخدم لهذا الغرض مفاهيم إسلامية مُفرّغة من مضامينها الحقيقية، ومجردة من ضوابطها وكوابحها الأساسية مثل المقاصد وعلوم القرآن، والفن الأدبي والتأويل، ثم قام بتضمينها وتعبئتها بمضامين جديدة استوردها من الشرق والغرب.
5 – ثم تبين أن المضامين الحقيقية التي أُلبست ثياباً إسلامية هي في الحقيقة فلسفات علمانية غربية مستهلكة دنيوية إنسية وماركسية وهرمينوطيقية قد هُجرت في ديارها، ولم يجن أهلها منها إلا الضياع والقلق ومزيداً من اليأس والإحباط.
6 – انعكس ذلك على المرجعية التي يجب أن تحكم الحياة فأصبح المرجع والحاكم هو الإنسان والواقع، أما القرآن فهو مجرد غطاء للتبرير، عليه أن يبارك الواقع، ويرضخ له وإلا فإنه لا يمكن أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان.
7 – ولذلك لم يعد للقرآن معنى في الفكرانية العلمانية لأنه أصبح يقول كل شيءٍ دون أن يقول شيئاً، يقول كل شيءٍ يريده الإنسان، ويسكت عن كل شيءٍ لا يريده الإنسان، ولم تعد له القداسة التي يُكنها له المسلمون، فأصبح يدعو إلى النفور، ويمارس التعمية " والإيديولوجية " والخداع والمخاتلة، ويوصم بالتناقض والتفكك والتبعثر.
8 – ولمزيد من الوفاء العلماني لجذوره الغربية الدنيوية اجترّ كل ما قاله المبشرون من أمثال فندر في كتابه ميزان الحق والمستشرقون من أمثال نولدكه وبلاشير بخصوص تاريخ القرآن وجمعه وكتابته، فردد كل ما قاله هؤلاء من طعن في سلامة القرآن عن التحريف، وإشاعة للأخبار الكاذبة التي وضعها الزنادقة، وروجها المبطلون، وهو في كل ذلك يعبر عن أشد أنواع الاستلاب، ويعاني من أخطر جراثيم الافتراس.
¥