إذا تبين هذا يظهر لك ضعف هذه القصة، وعدم صلاحية الاحتجاج بها. ثم ظهر لي فيها علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها، فقد أخرج الحديث ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص202) والحاكم (1/ 526) من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة، وكذلك رواه عون بن عمارة البصري ثنا روح ابن القاسم به، أخرجه الحاكم، وعون هذا وإن كان ضعيفاًً، فروايته أولى من رواية شبيب، لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.
وخلاصة القول: إن هذه القصة ضعيفة منكرة، لأمور ثلاثة:
ضعف حفظ المتفرد بها، والاختلاف عليه فيها، ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في
الحديث، وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟
ومن عجائب التعصب واتباع الهوى أن الشيخ الغماري أورد روايات هذه القصة في "المصباح" (ص12و17) من طريق البيهقي في "الدلائل" والطبراني، ثم لم يتكلم عليها مطلقاً
لا تصحيحاً ولا تضعيفاً، والسبب واضح، أما التصحيح فغير ممكن صناعة، وأما التضعيف فهو الحق ولكن ...
ونحو ذلك فعل من لم يوفق في "الإصابة"، فإنهم أوردوا (ص21 - 22) الحديث بهذه القصة، ثم قالوا: (وهذا الحديث صححه الطبراني في "الصغير" و"الكبير")!
وفي هذا القول على صغره جهالات:
أولاً: أن الطبراني لم يصحح الحديث في "الكبير" بل في "الصغير" فقط، وأنا نقلت الحديث عنه للقارئين مباشرة، لا بالواسطة كما يفعل أولئك، لقصر باعهم في هذا العلم الشريف (ومن ورد البحر استقل السواقيا).
ثانياً: أن الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة، بدليل قوله وقد سبق: (قد روى الحديث شعبة ... والحديث صحيح) فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو هذه القصة، فلم يصححها إذن الطبراني، فلا حجة لهم في كلامه.
ثالتاً: أن عثمان بن حنيف لو ثبتت عنه القصة لم يُعَلَّم ذلك الرجل فيها دعاء الضرير بتمامه، فإنه أسقط منه جملة p اللهم شفعه في وشفعني فيه i لانه يفهم بسليقته العربية أن هذا القول يستلزم أن يكون النبي r داعياً لذلك الرجل، كما كان داعياً للأعمى، ولما كان هذا منفياً بالنسبة للرجل، لم يذكر هذه الجملة؟ قال شيخ الإسلام (ص104): (ومعلوم أن الواحد بعد موته r إذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه – مع أن النبي r لم يدعُ له – كان هذا كلاماً باطلاً، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره ان يسأل النبي r شيئاً، ولا أن يقول: (فشفعه في)، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من
النبي r شفاعة، ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: (فشفعه في) لكان كلاماً
لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي r لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثوراً عن النبي r، ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الايجابات أو التحريمات، إذ لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبي r يخالفه ولا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته ان يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول).
ثم ذكر أمثلة كثيرة مما تفرد به بعض الصحابة، ولم يتبع عليه مثل إدخال ابن عمر الماء في عينيه في الوضوء، ونحو ذلك فراجعه.
ثم قال: وإذا كان في ذلك كذلك، فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي r بعد موته من غير أن يكون النبي r داعياً له، ولا شافعاً فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته r يتوسلون فلما مات لم يتوسلوا به، بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور، لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر: لا يأكل سميناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون. وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته، فلو كان توسلهم بالنبي r بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن
¥