أصل مذهب السلف مبني على قاعدة جليلة، وهي "كتاب وسنة بفهم سلف الأمة"، وقد سميت "عقيدة السلف" لأنهم هم الذين نطقوا بها، وتسمى "عقيدة أهل الحديث" أو "أهل الأثر" لأن عمدتها وأصلها مبني على الرواية، وأهل الحديث والأثر هم رواتها ونقلتها منذ العصر الأول، ثم حملها الخلف عن السلف، وتتابعوا عليها على نمط واحد وقاعدة مطردة، بخلاف غيرهم من المتكلمين الذين بنوا مذاهبهم وأسسوا مقالاتهم على علم الكلام ومنطق اليونان.
وعليه، فإن مقتضى ذلك أن يتقيد المتبعون لمذهب السلف بما يقرره علماء السلف الماضون نفياً وإثباتاً، وتصحيحاً وتضعيفاً. ألا ترى أننا – معشر السلفيين- نحتج على المخالفين في فهم النصوص بفهم السلف. فنقول ونكرر دائماً: قال مالك قال الأوزاعي قال الثوري قال أحمد بن حنبل إلى أن نقول: قال ابن تيمية قال ابن القيم .. وهكذا؟
بل إننا – إذا اختلفنا في فهم مراد السلف- نرجع إلى أقوال هؤلاء للفصل بين النزاع. ونحن، وجميع من في الأرض من أهل العلم، متفقون على أن أئمة السلف هم أئمة الحديث والجرح والتعديل، وأنهم هم حاملوا رايته، وأن المتأخرين عيال عليهم في نقد الراويات تصحيحاً وتضعيفاً.
•وعليه فإنه إذا ورد نص في مصنفات "الاعتقاد" و"السنة" وصرح فيه ولو إمام واحد من الأئمة بنقد شيء من الروايات والآثار، فإنه بموجب ما ذكرته، وما نحن متفقون عليه من حيث الجملة، يلزمنا الأخذ بحكمه، مالم يخالفه من هو مثله أو أعلم منه. ويبقى النظر فيما لم يرد فيه تصريح منهم بقبول أو رد، هل نقبله أم نرده أم نجتهد نحن فيه؟
وشرح ذلك يطول هنا، وأوضح ذلك بذكر مثالين:
الأول:
حديث أبي رَزِين العُقَيلي، وفيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ((أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق خلقه))؟ فهذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند [4/ 11] والترمذي [5/ 288] وابن ماجه (1/ 64] ورواه غيرهم في مصنفات "السنة"، كعبد الله بن الإمام أحمد وابن أبي عاصم وابن أبي شيبة في "العرش".
وقد نقل الذهبي في العلو [ص173] عن أبي عُبَيد القاسم بن سلاَّم تصحيحه لهذا الحديث مع أحاديث أخرى ذَكَرها، فقال ((هذه أحاديثُ صِحَاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها)). وحسنه الترمذي والذهبي في موضع آخر من كتاب العلو [ص18] واحتج به ابن القيم في تهذيب السنن [7/ 101].
ويكفي أن تعرف أن هذا الحديث ساقه الأئمة في إثبات الصفة، واحتجوا به في مصنفات "السنة"، ولم نعلم أحداً من علماء السلف المعَّول عليهم في الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف، أنكره أو ضعفه. فحين يأتي بعض المتأخرين من طلبة العلم الباحثين أو المشتغلين بالحديث وينظر في إسناده لينقده ويضعف بعض رواته، ومن ثم يضعف الحديث، كما فعل بعض المعاصرين في تعليقاتهم على كتب "السنة"، فإن كلامه يرد عليه كائناً من كان.
فصل
المثال الثاني:
حديث أبي هريرة في الصورة، وفيه ((إن الله خلق آدم على صورته)) وفي حديث ابن عمر ((فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن)). وهذان الحديثان كلاهما بمعنى واحد، والضمير في قوله ((على صورته)) يعود على الرب عز وجل، وفيه إثبات الصورة مع نفي التشبيه والتمثيل والتعطيل. وحديث ابن عمر المذكور، رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" [1/ 268] والدارقطني في "الصفات" [ص64] والآجُرِّي في "الشريعة" [3/ 1152] وابن أبي عاصم في "السنة" [1/ 228] وغيرهم.
والحديث الأول بلفظ ((على صورته)) لا خلاف في صحته عند الجميع، لكنهم اشتغلوا بتأويله وتحريف معناه، فأرجعوا الضمير إلى غير الله، وأما اللفظ الثاني ((على صورة الرحمن)) فاشتغلوا بتضعيفه، مع أن الذهبي حكى تصحيحه عن أحمد وإسحق بن راهويه. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام طويل في تصحيحه والرد على من ضعفه، صدره بقوله ((هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله ... )). انظر عقيدة أهل الإيمان للشيخ حمود التويجري [ص 54].
¥