أما الإرادة الكونية فإنها عامة لكل الموجودات فهي شاملة لما يحب -سبحانه- وما لا يحب، فكل ما في الوجود فهو حاصل بإرادته الكونية سواء في ذلك ما يحبه الله أو يغضبه فكل ما في الوجود فهو حاصل بإرادته -تعالى- الكونية التي هي بمعنى المشيئة فإنه لا يخرج عن مشيئته أو إرادته الكونية شيء ألبتة.
أما الإرادة الشرعية فإنها تختص بما يحبه سبحانه فالطاعات مرادة لله شرعًا أما المعاصي فليست مرادة شرعًا وما وقع من الطاعات ما حصل منها فإذا صليت مثلًا نقول: هذه الصلاة تتعلق بها الإرادتان: الإرادة الكونية والإرادة الشرعية. ماذا تقول؟ .. أقول ما يقع من الصلاة إذا صلى الإنسان أو أي طاعة تفعلها فإنها واقعة بالإرادة الكونية ومتعلق كذلك للإرادة الشرعية فهي مرادة لله كونًا وشرعًا. أما المعاصي فهذه مرادة لله كونًا؛ لأنها لا يقع في الوجود شيء البتة إلا بإرادته ومشيئته -سبحانه- لكن هل المعاصي محبوبة لله؟ لا بل هي مبغوضة وإن كانت واقعة بإرادته فهذا هو الفرق بين الإرادتين.
فرق بين الإرادتين من وجهين. الأول: أن الإرادة الكونية عامة لما يحبه الله وما لا يحبه لكل ما في الوجود، فكل ما في الوجود فهو مراد الله كونًا وهو حاصل بمشيئته -سبحانه وتعالى- أما الإرادة الشرعية فإنها إنما تتعلق بما يجب -سبحانه وتعالى- فقط قال أهل العلم: "فتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمن وطاعة المطيع تجتمع الإرادتان كما في المثال المتقدم.
وتنفرد الإرادة الشرعية في إيمان الكافر أليس الكافر مطلوب منه الإيمان؟ نعم لكنه لم يحصل فهو مراد لله شرعًا لكنه غير مراد كونًا إذ لو شاء الله لاهتدى وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا وكذلك الطاعة التي أُمِرَ بها العبد ولم يفعلها هذه مرادة لله شرعًا لكنها لم تتعلق بها الإرادة الكونية؛ إذ لو تعلقت بها الإرادة الكونية لحصل؛ لأن ما في إرادة الله كونًا. هذا من الفروق.
وفرق ثالث: وهو أن الإرادة الكونية لا يتخلف مرادها أبدًا، أما الإرادة الشرعية فقد يقع مرادها وقد لا يقع فالله أراد الإيمان من الناس كلهم أراده شرعًا يعني. أمرهم به وأحب ذلك منهم ولكن منهم من آمن ومنهم من كفر.
فالإرادة الكونية لا يتخلف مرادها، أما الإرادة الشرعية فقد يحصل مرادها وقد لا يحصل.
وقال أيضا في موضع آخر من الشرح:
ويفرق العلماء بين الإرادتين من وجوه:
أولاً: أن الإرادة الكونية عامة، فجميع ما في الوجود مراد لله، وواقع بمشيئته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يقع في الوجود إلا ما شاء سبحانه وتعالى، ولا يكون إلا ما يريد أبداً، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فالذي وقع نقول فيه: شاءه الله، وما لم يقع لا ندري عنه.
نقول: إن شاء الله يعني: ما فعلته اليوم، أو أمس هل شاءه الله؟. نعم شاءه، لكن ما تنوي فعله غداً لا ندري عنه، فإن وقع علمنا أن الله قد شاءه، وإذا لم يقع علمنا أن الله لم يشأه.
عامة الإرادة الكونية عامة بمعنى: المشيئة عامة، تشمل كل ما في الوجود، من خير وشر، كله بمشيئته سبحانه وتعالى، وهذا يرجع إلى كمال ملكه، إلى كمال الملك، فله الملك كله، فكل ما في الوجود فإنه واقع بمشيئته وقدرته تعالى،
أما الإرادة الشرعية فليست عامة، بل هي مختصة بما يحبه الله، فالله يريد من عباده الإيمان والطاعة، إذا كان يريد من عباده الإيمان والطاعة، فهذا معناه الإرادة الشرعية.
وهذه الإرادة تتضمن المحبة، فالله يحب الإيمان والمؤمنين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، يريد من عباده الأعمال الصالحة، ويحبها الله، يحب التقوى والتوبة لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته … الحديث.
فهذان فرقان الأول: أن هذه عامة، والإرادة الشرعية خاصة هذا فرق.
الفرق الثاني: أن الإرادة الكونية لا يتخلف مُرَادُها يعني: لا بد أن يقع ما أراده الله، فلا بد أن يقع لأنه تعالى لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء، ما شاء الله كان.
وأما الإرادة الشرعية؛ فقد يقع المراد، وقد لا يقع، فليس كل ما أراده الله كونه شرعا يكون.
فتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمن؛ فإيمان المؤمن مراد لله كونا وشرعا، وتنفرد الإرادة الكونية بكفر الكافر، فكفر الكافر ومعصية العاصي أليست واقعة بمشيئة الله؟
هل وقع شيء من ذلك قهرا على الله؟
لا، فتستقل به الإرادة الكونية والمشيئة.
وأما الإرادة الشرعية فتنفرد بإيمان الكافر؛ لأنه ما وقع، لكن الله أراده منه، وأمره ودعاه إلى الإيمان؛ فهذا مما بينه أهل العلم للفرق بين الإرادتين، الإرادة الكونية والإرادة الشرعية.
فإذا رأينا مثلاً شيئا من الحوادث العامة، يعني رأينا شيئا من المخلوقات نقول: هذا واقع بقدر الله بمشيئته -سبحانه وتعالى- وإرادته يعني: الإرادة الكونية، لكن إذا صلى العبد وأطاع ربه فصلاته واقعة بالإرادتين، وإذا لم يصل عصى، ولم يصل فهو مأمور بالصلاة، والله يريد منه الصلاة، الإرادة الكونية، ولكنه لم يفعل، والله أحكم الحاكمين،
وبهذا يعلم أن الله قد يشاء ما لا يحب، ككفر الكافر، ويحب ما لا يشاء كإيمان الكافر، الذي لم يحصل.
فعلى كل حال ينبغي الفرق بين الإرادتين، فالمسلمون الآن يعلمون هذا ولله الحمد بفطرتهم، وبما علموه من كتاب الله، وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- فإذا رأوا أيَّ أمر قالوا: هذا بقدر الله، وبمشيئة الله وبإرادته، يعلمون أنه لا يكون إلا ما يشاء، ويقولون: إنه تعالى يحب من عباده الإيمان والطاعة، هذه أمور محبوبة له سبحانه وتعالى، فليس كل ما في الوجود محبوبا له كما تقول الجهمية والجبرية، وليس شيء من الوجود خارجا عن الإرادة كما تقول القدرية. القدرية ينفون عموم المشيئة، ويخرجون أفعال العباد عن مشيئة الله، هؤلاء القدرية مجوس هذه الأمة.
[من شرح الواسطية للبراك]
¥