ويقول الشعراني: (وكان يقول- يعني أبا العباس المُرسي- لي أربعون سنة ما حجبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو حُجبت طرفة عين ما أعددن نفسي من جملة المسلمين).
هذا هو حال طائفة من الغلاة الذين عبدوا الله على جهل وغرور فتلاعب بهم الشيطان أيما تلاعب، فإن ماتوا على تلك الحال ولم يتراجعوا عن ذلك المقال فليتبؤوا مقعدهم من النار على لسان المختار صلى الله عليه وسلم.
وطائفة أخرى لها حظ من العلم في بعضه دخن، يستعمل ما آتاه الله من علم في نصرة الباطل وأهله من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
لما سُئل ابن حجر الهيتمي: (هل يمكن الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة والتلقي منه؟ فأجاب: نعم يمكن ذلك وصرح بأن ذلك من كرامات الأولياء الغزالي والبارزي والتاج السبكي والعفيف اليافعي من الشافعية، والقرطبي وابن أبي جمرة من المالكية. وحًكي عن بعض الأولياء أنه حضر مجلس فقيه فروى ذلك الفقيه حديثاً فقال له الولي: هذا الحديث باطل، قال: ومن أين لك هذا؟ قال هذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف على رأسك يقول: إني لم أقل هذا الحديث وكُشف للفقيه فرآه)] "الفتاوى الحديثية" (ص217) [.
وأعجب من تلك الحكاية زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للسيوطي في بيته يقظة لا مناماً وقراءة السيوطي للأحاديث بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسمع.
قال الشعراني في "الطبقات الصغرى" (ص28 - 29): (أخبرني الشيخ سليمان الخضيري قال: بينا أنا جالس في الخضيرية على باب الإمام الشافعي رضي الله عنه إذ رأيت جماعة عليهم بياض وعلى رؤوسهم غمامة من نور، يقصدوني من ناحية الجبل. فلما قربوا مني فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقبلت يده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: امض معنا إلى الروضة. فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الشيخ جلال الدين، فخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقبل يده وسلم على أصحابه، ثم أدخله الدار، وجلس بين يديه. فصار الشيخ جلال الدين يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأحاديث وهو صلى الله عليه وسلم يقول: هات يا شيخ السنة).
وقال الشعراني أيضاً في المرجع السابق (ص30): (وكان رضي الله عنه- يعني السيوطي- يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة فقال لي يا شيخ الحديث. فقلت: يا رسول الله أمن أهل الجنة أنا؟ فقال: نعم. فقلت: من غير عذاب يسبق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك ذلك).
ألا يعلم الهيتمي وهو على معرفة بعلوم الحديث، بل وله فتاوى حديثية في ذلك والسيوطي - والعهدة على الشعراني- وله ألفية في علوم الحديث وله عليها شرح كبير أن تلك الحكايات والادعاءات لا يجوز الاحتجاج ولا الاستشهاد بها في شيء من أمور الدين. بل هي باطلة ومن أبين الأدلة على بطلانها سؤال الولي والسيوطي للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً. فلو كان مثل هذا السؤال ممكناً لما أفنى علماء الحديث أعمارهم في التمييز بين الصحيح والضعيف، ولكان تأليف الدواوين الضخمة في أحوال الرجال نوعاً من العبث وتضييعاً للأوقات، ولاستغنوا عن ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم مباشرة عن صحة الأحاديث وضعفها كما فعل السيوطي شيخ السنة!!
بل ما كان للهيتمي وصنوه السبكي ومن نحا نحوهم أن يتكلفوا التأليف في مسائل الزيارة والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسودوا صفحات كتبهم بالأحاديث الضعيفة والمنكرة، وكان الأولى
لهم أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل التي نازعهم فيهم خصومهم كما فعل السيوطي شيخ السنة!!! أم أنه لا يوجد أولياء لله في ذلك الوقت؟! إنهم يعرفون ولكنهم قوم يُحرَّفون.
وبعد هذا النزر اليسير من الحكايات والادعاءات المنقولة عن أرباب الأحوال الصوفية في دعوى مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم يقظة والتلقي منه، وكل حكاية تتضمن تكذيب تلك الدعوى، ننتقل إلى الرواية التي استدلوا بها. وهذا سندها ومتنها:
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري حدثني أبو سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي}] "البخاري" (كتاب التعبير) (12/ 383) مع "الفتح" حديث رقم 6993 [.
والكلام على الاستدلال بهذه الرواية من عدة أوجه:
¥