الخامسة: بل كان فقيههم "فتيان" يدخل المسجد ويشتم الشافعي بأقذع الشتائم أمام طلابه، والإمام الشافعي يتابع درسه ولا يجيبه. وقد قال الإمام موضحاً السبب لتلاميذه:
فأين يجد أن فتيان فقيه المالكية إذ ذاك، أو في ما أتى من الزمان، بل لو سأل سائل اليوم أحدا من فقهاء المالكية أو متفقهتهم عن فتيان هذا لما عرفه، ولظنه جمع فتىً. بل هو التهويل والرغبة في التشنيع، فعل الجهلة الأغمار.
وكيف يكون فقيههم وهو يفعل ما نسبه إليه صاحب المقال؟!! فأبن لنا أين تجد مثل هذه الحكايات، وإلا حلت عليك عقوبة المتعمد.
القسم الثاني: أشياء موجودة في كتب التراجم هى أشبه بحديث خرافة:
الأولى: دعاء أشهب على الإمام وهذا مذكور في مدارك القاضي عياض و توالي التأسيس، وفي الشذرات، وفي مرآة اليافعي ..
ومعلوم أن هذه المصادر تذكر كثيرا من الأشياء، منها ما صح ومنها ما توارثه الخلق وهو من المفتريات المكذوبات، وعذرهم في إيرادهم لها إحالتهم على المصادر، أو ذكرهم للأسانيد، والتمحيص متروك لمن ألقى السمع وهو شهيد، والجاهل المتعصب لا يرده شئ، فإن لم يجد مثل هذه الترهات يتسلى بها، ويشفي بها غيظه؛ عمد إلى الاختلاق والافتراء، وتضخيم الصغير من المحقرات ليبوء بإثمها، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وهذا الذي تقدم أصل في كل ما تراه – أيها المحب - من قبيل هذه المفتريات في بعض المصادر، فليكن نظرك إليه على هذا الأساس، وقد قال القائل محذرا ومنبها:
واعلم بأن السيرا - - تجمع ما صح وما قد أنكرا
ومما يزيدك يقينا في بطلان أمر هذا الدعاء – مع شهرته – أن الجويني في [مغيث الخلق .. ] نسب هذا الدعاء على الإمام الشافعي لمحمد بن الحسن وأبي يوسف – رحمهما الله –.
فإن أبى صاحب المقال كل هذا – مع عدم وجود إسناد بين يديه لهذه القصة – فليسعه قول الإمام الذهبي في السير 9/ 503: (ودعاء أشهب على الشافعي من باب كلام المتعاصرين، بعضهم في بعض لا يعبأ به، بل يترحم على هذا وعلى هذا، ويستغفر لهما، وهو باب واسع أوله موت عمر، وآخره رأيناه عيانا، وكان يقال لعمر: قفل الفتنة). هكذا يتكلم العلماء الأكابر، لا كما يدعي صاحب المقال ظلما: أن ذلك كان من أشهب لشدة حقده.
ولماذا يحقد أشهب - خاصة - على الشافعي - رحمه الله - وقد كان أشهب في العلم بمكان رفيع ... وما كان متعصبا لشيخه مالك ... بل كان يخالف إمامه كثيرا ...
الثانية: قوله: (يقول الكندي في "القضاة" (ص428): «لما دخل الشافعي مصر، كان ابن المنكدر يصيح خلفه: "دخلتَ هذه البلدة وأمرنا واحد، ففرّقت بيننا وألقيت بيننا الشر. فرّقَ الله بين روحك وجسمك"».
وهذه يقال فيها ما قيل في أختها الأولى، ومما يبين لك بطلانها أن ابن المنكدر هذا تولى القضاء بعد موت الإمام الشافعي – رحمه الله بسنوات – فلو كان على هذه الصفة من الجهل كيف يولى أمر المسلمين، ثم إن الذي دفع به عند الوالي ليتولى تلك المهمة العظيمة هو الإمام البويطي – رحمه الله كما في رفع الإصر – فلو علمه بتلك الحال هل كان يقترحه على الوالي ليتولى ذلك المنصب الرفيع؟
وقد استنبط صاحب المقال من هذه الخرافة بذكائه المفرط ما عبر عنه بهذه العبارات الثورية الشيطانية، فقال: ( ... وهذا فيه تحريض مبطّن لعوام المالكية لاغتيال الإمام الشافعي وتصفيته جسدياً).
ولكن يبدو أن الذي قام بالمهمة حسب ما أورده بعضهم هم علماء المالكية وليس عوامهم، وهذه:
الثالثة: (ثم قام المالكية بضرب الإمام الشافعي ضرباً عنيفاً بالهراوات حتى تسبب هذا بقتله –رحمه الله–).
وقد سبق أن أخبرته في التعليقات أن هذا من الباطل الذي يتورع طلبة العلم عن حكايته إلا على سبيل الإنكار، وأظن أنني نقلت له ما ذكره الإمام الحافظ ابن حجر – رحمه الله - في توالي التأسيس ص86، بعد أن ذكر ما ينسب لفتيان أنه ضرب الإمام بمفتاح حديد، فقال: (ولم أر ذلك من وجه يعتمد).
¥