وقد بوّب الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه " الكفاية " باباً في هذه المسالة وأشار إلى الخلاف ورجح العدم، فقال رحمه الله: (باب الردّ على مَن زعم أنَّ العدالة، هي إظهار الإسلام، وعدم الفسق الظَّاهر: الطَّريق إلى معرفة العدل المعلوم عدالته مع إسلامه وحصول أمانته ونزاهته واستقامة طرائقه لا سبيل إليها، إلا باختيار الأحوال، وتتبُّع الأفعال التي يحصل معها العلم من ناحية غلبة الظَّن بالعدالة، وزعم أهل العراق: أن العدالة هي إظهار الإسلام وسلامة المسلم من فسق ظاهر، فمتى كانت هذه حاله وجب أن يكون عدلاً).
ثم استطرد في البحث في هذه المسألة.
وأشار الحافظ ابن حجر في " الفتح " [5/ 295] إلى قوة الخلاف في هذه المسألة، فقال: (قوله: (باب إذا عدل رجل رجلا فقال: لا نعلم إلا خيرا أو ما علمت إلا خيراً) وفي رواية الكشميهني (أحدا) بدل (رجلا)، قال ابن بطال: حكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال: إذا قال ذلك قبلت شهادته، ولم يذكر خلافا عن الكوفيين في ذلك، واحتجوا بحديث الإفك، وقال مالك: لا يكون ذلك تزكية حتى يقول رضا ... ، وقال الشافعي: حتى يقول عدل، وفي قول: عدل علي ولي، ولا بد من معرفة المزكي حاله الباطنة، والحجة لذلك أنه لا يلزم من أنه لا يعلم منه إلا الخير أن لا يكون فيه شر، وأما احتجاجهم بقصة أسامة فأجاب المهلب بأن ذلك وقع في العصر الذي زكى الله أهله، وكانت الجرحة فيهم شاذة، فكفى في تعديلهم أن يقال: لا أعلم إلا خيرا، وأما اليوم فالجرحة في الناس أغلب، فلا بد من التنصيص على العدالة، قلت – أي الحافظ ابن حجر -: لم يبت البخاري الحكم في الترجمة، بل أوردها مورد السؤال لقوة الخلاف فيها).
فذهب جمهور العلماء إلى أن العدالة ليست أصلاً في المسلم، لأنها وصف زائد على الإسلام فقد يثبت الإسلام بدونها، وذلك لأن العدالة ملكة، والملكات مسبوقة بالعدم.
وخالفهم أبو حنيفة – رحمه الله – وقال بأن ثبوت الإسلام كافٍ لثبوت العدالة، ومنهم من حمل قول أبي حنيفة على عصره لأنه من القرون المفضّلة، وقد ذكر الخلاف في ذلك جماعة من العلماء في عامة كتب الفقه وأصوله وقواعد الحديث.
قال القرطبي: (قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) في موضع رفع على الصفة لرجل وامرأتين. قال ابن بكير وغيره: هذه مخاطبة للحكام. قال ابن عطية: وهذا غير نبيل، وإنما الخطاب لجميع الناس، لكن المتلبس بهذه القضية إنما هم الحكام، وهذا كثير في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض. لما قال الله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) دل على أن في الشهود من لا يرضي، فيجيء من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم، وذلك معنى زائد على الإسلام، وهذا قول الجمهور.
وقال أبو حنيفة: كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال. وقال شريح وعثمان البتي وأبو ثور: هم عدول المسلمين وإن كانوا عبيدا، قلت فعمموا الحكم).
وتقدم إشارة الخطيب البغدادي إلى هذا الخلاف ونسبته لبعض الكوفيين ويعني به أبا حنيفة.
ولكل من القولين أدلة من الكتاب والسنة يستند إليها، فكيف يقال بأن المسألة محل إجماع بين العلماء؟!.
وقد سألتُ شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى عمن يقول: الأصل في أهل اليمن الزيدية، وفي أهل عمان الأباضية، وفي أهل مصر الأشعرية؟، فقال: أعوذ بالله، هذا كلام باطل، الأصل في المسلم العدالة – هكذا قال -.
ومقام التحقيق في المسألة أنه لا تلازم بين كون الأصل في المسلم عدم العدالة، وبين كون الأصل فيه السلامة، فكما وجب اشتراط ثبوت العدالة لكونها وصف زائد لا تثبت بدليل، فكذلك الجرح وصف زائد يشترط في ثبوته الدليل مع البراءة الأصلية فيه، وتغليب سلامة المسلم من العيب لأنه الأصل فيمن حمل مسمى الإسلام.
والله تعالى امتدح الأمة بكونها (أمة وسطا) قال غير واحد من المفسرين: عدلا، ومن ثمَّ قد يكون فيهم العدل وغير العدل فالوسطية بمعنى العدالة هنا من العام الذي أريد به الخصوص، أو العام المخصوص لمن قامت به العدالة، قال بنحوه الحافظ ابن حجر.
¥