وخلاصة الكلام أن تفريط الناس اليوم في موالاة أهل الكفر والبدعة والفسق، وإفراط الآخرين في الذم والهجر والحكم على الآخرين بالكفر والبدعة والفسق، كل ذلك من جنس الظلم الذي حرمه الله تعالى على نفسه وجعله بين عباده محرما، ومن جنس الجهل الداعي إلى ارتكاب المحرم، وضعف المراقبة، ومن عوفي من هذين الدائين فهو الناجي المعافى، إذ هما أصل بلاء كل من حاد عن السبيل، وبتمام الإسلام والاستسلام تكون السلامة من (الهوى)، وبتمام الإيمان والتصديق يرتفع المرء عن (الجهل)، وأنشد ابن القيم:
وتعرّ من ثوبين من يلبسهما **** يلقَ الردى بمذمة وهوانِ
ثوب من الجهل المركب فوقه **** ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أعظم حلة ***** زينت به الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن مع ***** نصح الرسول فحبذا الأمران
كما إنني أختم لكم أخي الفاضل كلمتي هذه بالوصية بالاشتغال بالعلم، والاكتفاء في نقد الرجال والطوائف بما قاله أهل العلم بالجرح والتعديل في كل عصر، لأنهم أعرف بالمنكر ووجه الإنكار وطريقته، وأما طلاب العلم فعليهم الاستجابة، ونشر قولهم فقط، فقد كفاهم أهل العلم بذلك، ثم ليسألوا ربهم العافية، وذلك لأن التمادي في الكلام في الأشخاص قد يؤدي إلى الظلم والبغي أحياناً، والمسلم ينبغي أن يراقب الله في ذلك، لأن التحذير من أهل البدع وبيان حالهم، عقوبة لهم، والعقوبات مبناها على العدل، فلا يجوز أن يعاقب شخص بأكثر مما يستحقه شرعاً، حتى في ألفاظ الجرح فكيف بالمعاملة؟!، وتقدم في ما كتبت لكم سابقاً أن الأصل في الأعراض الحرمة، وأبيح الكلام فيها للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
قال السخاوي في شرحه لألفية الحديث: (لا يجوز التجريح بشيئين إذا حصل بواحد).
ونقل فيه أيضاً عن العز بن عبدالسلام أنه قال في " قواعده ": (إنه لا يجوز للشاهد أن يجرح بذنبين مهما أمكن الاكتفاء بأحدهما، فإن القدح إنما يجوز للضرورة، فيقدر بقدرها).
وقال أيضاً في " الإعلان بالتوبيخ ": (وإذا أمكنه الجرح بالإشارة المفهمة أو بأدنى تصريح لا تجوز له الزيادة على ذلك، فالأمور المرخص فيها للحاجة لا يرتقى فيها إلى زائدٍ على ما يحصّل الغرض، وقد روّينا عن المزني قال: سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: فلان كذاب، فقال لي: يا إبراهيم أكس ألفاظك، أحسنها، لا تقل: كذاب، ولكن قل: حديثه ليس بشي، ونحوه أن البخاري كان لمزيد ورعه قل أن يقول: كذاب أو وضاع، أكثر ما يقول: سكتوا عنه، فيه نظر، تركوه، ونحو هذا، نعم ربما يقول: كذبه فلان، أو رماه فلان بالكذب).
وقال القرافي في " الفروق " في الفرق بين قاعدة الغيبة المحرمة، وقاعدة الغيبة التي لا تحرم، عندما ذكر أسباب إباحة الغيبة التي لا تحرم: (ويشترط في هذا القسم: أن تكون الحاجة ماسّة لذلك، وأن يقتصر الناصح في ذكر العيوب على ما يخلّ بتلك المصلحة خاصة، التي حصلت المشاورة فيها، أو التي يعتقد الناصح أن المنصوح شرع فيها .. ).
قلت: ومن نظر في عبارات أئمة الجرح والتعديل في كتبهم وجدها تدور غالباً على كلمة واحدة: (كذاب، متروك، متهم، سيئ الحفظ، يسرق الحديث، مبتدع، خبيث، تركوه) ونحو هذا، وجعلوا ذلك في كتب الرجال فقط، ولم يطردوها في كل حين وآن، ومتى ذكروا، فلكل مقام مقال يقتضيه، ولهذا وجد في ما أسندوه أسماء أشخاص من أهل البدع.
ولم يقولوا حدثنا فلان المبتدع عن فلان الجهمي عن فلان الخبيث!، ونحو هذا، وإن كان يقع من بعض أهل السنة ذلك أحياناً كما قال عيسى بن يونس: حدثنا ثور وكان قدريا، وكما قال قتيبة: حدثنا جرير الحافظ المقدم ولكنّي سمعته يشتم معاوية علانية.
كما إنه قد يوجد في عبارات أئمة الجرح والتعديل بعض الإكثار من ذم الرجل عامتها لأسباب يقتضيها المقام، ومنها ما يكون فيه مبالغة لا تقبل، وقد أنكر الحافظ ابن عبدالبر في " الجامع لبيان العلم وفضله " جملة من ألفاظ العلماء بعضهم في بعض.
وسألت شيخنا شيخ الإسلام عبدالعزيز بن باز – قدس الله روحه – عن المبتدع إذا كان فيه صفة خلقية أو خُلقية هل تذكر؟، فقال لي: (لا .. لا .. حذر من بدعته فقط).
فكيف بمن يطلق لسانه في شتى المجتمعات بشتى أصناف الجرح في الأشخاص مما يكشف عن سرّ طويته وأن ذلك للتشفي والتشهي وقلة الورع، ومراقبة الله.
بل كيف بمن يتجاسر اليوم على تتبع العورات، حتى تجرأ البعض إلى البحث عن أعراض ذوي من يريدون جرحه من النساء والذرية، فيعيرونه بهم؟!، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، والله يعصمنا وإياكم أخي الكريم من مخالفة أمره، ويرزقنا حسن الإتباع، ويجنبا سبل الهوى والابتداع، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، تم تحريره مع أذان فجر يوم الأربعاء الموافق 15 من شهر جمادى الآخرة سنة 1424 بالحوية، بيد أفقر خلق الله: بدر بن علي العتيبي غفر الله له ولوالديه ومشايخه وجميع المسلمين.
¥