رغم الجهد الضخم الذي بذله الجابري في إعداد هذا المشروع الفكري مستفيداً في ذلك ممن سبقه من الباحثين، مسلمين كانوا أو مستشرقين أو ماركسيين .. الخ؛ فإن المرء لا يسعه إلا أن يتبنى موقفاً مغايراً لما تبناه المؤلف في كثير من المواضع في تلك الكتابات، نقف في هذا العرض عند بعض منها:
من الملفت للنظر في هذا المشروع النقدي، أنه في غمرة حماسته للفلسفة الأرسطية، قد غض الطرف عن النقد الجوهري المتين الموجه قديماً وحديثاً لهذه الفلسفة، سواء أكان ذلك في المنطق الذي يحكمها أو في النتائج والرؤية التي تنتج عنها، حتى أن العلم الحديث لم يتمكن من تحقيق فتوحاته العظيمة حتى تحرر من أسرها، والمؤلف خبير بالمنهج العلمي الحديث في البحث والتفكير، حيث وضع فيه كتاباً في جزأين تحت عنوان (فلسفة العلوم)، ظهر له من خلالهما البون الشاسع بين التفكير العلمي الحديث والمنهج الأرسطي القاصر فلماذا يا تُرى جعل الباحث المنهج الأرسطي معياراً للحكم على فكر هذا العالم أو ذاك بالتقدم أو التخلف، بالعقلانية أو عدمها؟!
حقيقة .. لا يظهر لي سبب واضح وراء هذه الحماسة والاندفاع.
-رغم أن الجابري لم يبد عداءً نحو منهج البيانيين (فقهاء وأصوليين ولغويين) فهو في ذات الوقت لم يحدد موقفاً واضحاً من القضايا التي أثاروها ولم يبد انحيازاً مع تلك الطروحات أو ضدها، وهو موقف غريب غير مبرر. ومن المسائل ذات الدلالة في هذا الموضوع أن ابن تيمية رغم مساهمته الثرية والعميقة في كل القضايا التي أثارها المؤلف في كتاباته، لم يلق أي اهتمام يستحق الذكر مقارنة بغيره من الشخصيات التي برزت في علم الأصول أو علم الكلام أو الفلسفة… الخ.
ورغم عدم تحيزنا للأشخاص، فإنه يمكن اعتبار هذه الظاهرة ذات دلالة لا تخفى، حيث أن ابن تيمية يشكل ربما الصورة الأخرى لابن رشد… فرغم إطلاعه الواسع على الفلسفة بمختلف تياراتها، ودخوله في جدل عميق مع مختلف طروحاتها، إلا أنه ظل على إيمان عميق لا يتزعزع بأن العقل لا يعارض النقل ولا يُضادّه، وأن أكمل مناهج التفكير العقلي، إنما هي تلك التي دعى إليها النقل وحث عليها.
فهو بخلاف ابن رشد يؤمن بأن مبادئ الشرائع يمكن فحصها والاستدلال لها بالعقل، كما أن مقدمات الفلسفة هي الأخرى تخضع للفحص العقلي والنقلي؛ وذلك هو الموقف العلمي الصحيح، وإلا كيف لمسلم أن يتورط بالقول بأزلية العالم؟، وذلك مخالف لمسلمة قطعية من مسلمات الدين وهي الاعتقاد بأن هذا العالم مخلوق بعد أن لم يكن؟!
كيف لمفكر يحترم نفسه أن يسلم بالرؤية الفلكية الأرسطية، ويبقى في ذات الوقت محترماً للنص الشرعي مؤمناً بما فيه، بحجة أن هذه مقدمة فلسفية وتلك مقدمة كلامية شرعية؟!
أليس في ذلك تغييباً مقصوداً للوعي؟! وعودة لا تخفى إلى التناقض؟!
-أشار المؤلف إلى أن منهجية البيانيين المفضلة هي الاستدلال بالشاهد على الغائب، وهي دعوى غير مسلم بها، فلقد كان للأصوليين المتقدميين كلام في الاستحسان، والمصالح، والاستقراء، والاستنباط، وهي طرائق في الفهم والاستدلال مغايرة لقياس الشاهد على الغائب.
كما أن للعلماء المسلمين في مجال العلوم الطبيعية، منهجياً تجريبياً متقدماً حتى أن المسلمين يعتبرون بحق وبشهادة الباحثين الغربيين أنفسهم سباقين إلى اكتشاف المنهج التجريبي، وعنهم أخذته أوروبا في عصر النهضة، وهي قضية لم يعطها الكاتب حقها من الاهتمام والتقدير الكافيين.
هذه مسألة…. والمسألة الأخرى في هذا الصدد حول قيمة المنهج في الوصول إلى الحقيقة… إن التقدم العلمي الهائل الذي تشهده العلوم التجريبية المعاصرة، ليس في الحقيقة ناتجاً عن تقدم المنهج إطلاقاً… إنما هو في الواقع ناتج عن الإمكانات الهائلة التي أودعها الله في هذا الكون… إنها عظمة الله تتبدى في عظمة خلقه، وليس ذلك ناجماً عن عظمة المناهج البشرية. إن العلم يكشف الطبيعة (الخلق) وقوانينها (السنن) ولا يخلقها من عدم… بل إن لبعض علماء الفيزياء المرموقين المعاصرين وهو بول ديفيس البريطاني كتاباً سماه "ضد الطريقة Against Method" يذكر فيه أن المنهج لم يكن في يوم من الأيام رائداً للبحث العلمي، بل كان دوماً متخلفاً وتابعاً للبحث العلمي!!
فالدور الضخم الذي يعطيه الجابري للمنهج يحتاج إلى مراجعة وتدقيق.
¥