قال القرطبي في تفسيره (12/ 80): (وقال الفراء الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل عليه السلام إليه عيانا والنبي الذي تكون نبوته إلهاما أو مناما).
وهذا الوجه في التفريق من أضعف الوجوه:
وردّه الماوردي في أعلام النبوة (ص/33) حيث قال تحت عنوان كيفية بعثة الرسل ما ملخصه: (فإذا ثبت جواز النبوات وبعثة الرسل بالعبادات فهم رسل الله تعالى إلى خلقه إما بخطاب مسموع أو بسفارة ملك منزل، ثم نقل عن قوم أنهم قالوا: صاروا أنبياء بالإلهام لا بالوحي، ثم قال: وهذا فاسد من وجهين: أحدهما أن ما بطل به إلهام المعارف في التوحيد كان إبطال المعارف به في النبوة أحق والثاني أن الإلهام خفي غامض يدعيه المحق والمبطل فإن ميزوا بينه طلبت أمارة وإن عدلوا عن الإلهام فذلك دليل يبطل الإلهام).
وقال ابن حجر في الفتح (1/ 20): (والرؤيا الصادقة وأن كانت جزءا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك).
و هذا الوجه من التفريق لا دليل عليه بل إن ظاهر القرآن والسنة يخالفاه فمن ذلك:
قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) (النساء:163)، وقال تعالى: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الشورى:3) فهاتان الآيتان تدلان على أن الوحي إلى جميع الأنبياء والرسل لا تباين فيه، قال ابن حجر في الفتح (الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله ... وقال: الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه). وقد وروى أبو نعيم في (الدلائل) بسند حسنه ابن حجر في الفتح، عن علقمة بن قيس قال: (إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة)
وروى أحمد (1/ 278)، والطيالسي (2731) عن شهر بن حوسب عن ابن عباس رضي الله عنهما في سؤال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك قال فإن ولي جبريل عليه السلام ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه) وقد ورد في بعض طرقه عند أحمد (1/ 274) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك قال جبريل عليه السلام) وهذا الحديث حسنه الأرناؤوط بالشواهد.
وهذه الأدلة قوية في إبطال هذا التفريق وأنه لا بد لثبوت النبوة من ولاية جبريل عليه السلام مع الرؤيا الصادقة وقد يختص الله بعض الأنبياء مع ذلك بالتكليم بغير واسطة كسيدنا موسى ومحمد عليهما السلام، وأما تخصيص الأنبياء ببعض هذه الطرق والأنبياء ببعض فتحكم لا دليل عليه كما أنه في مقابلة النصوص.
فائدة: بيان أن الوحي الخاص لا يستلزم النبوة:
قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ
عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى:51) فقد حصر سبحانه وتعالى في هذه الآية أوجه تكليمه للبشر وبعض مفرداتها ثابت لغير الأنبياء فلا يلزم من ثبوت بعض طرق الوحي ثبوت النبوة.
ومن الأمثلة على ذلك:
1 - الوحي إلى أم موسى عليه السلام:
قال تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوت) (طه: 37 - 39) فهذا وحي خاص إلى أم موسى ولم يثبت به نبوتها، قال الشنقيطي في أضواء البيان (4/ 439): (أوحى إلى أمه أي ألهمها وقذف في قلبها، وقال بعضهم: هي رؤيا منام. وقال بعضهم: أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك. ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحي إليه نبيا).
2 - إثبات التحديث (الإلهام) لغير الأنبياء:
¥