ولذلك فإن بعض الطوائف المنتسبة إلى الإسلام إذا ذهبت إلى تلك الأماكن التاريخية تصيبهم تلك الإشعاعات والإيحاءات التي تكلم عنها الكاتب .. فيبكون هناك .. ويخشعون .. ويصنعون ما لا يصنعونه عندما يتلون القرآن.
فلو رأيت تلك الطوائف وتعظيمهم لتلك الأماكن ... وكيف يتبركون بها ويعتقدون إجابة الدعوة عندها.
حتى استعذبت قلوبهم تلك البدع، واستغنت بها عن كثير من السنن حتى إن كثيراً من تلك الطوائف ليحافظ على البدع ما لا يحافظ فيه على الواجبات والسنن، ويتلذذون بالبدع ما لا يتلذذون بالسنن.
فجهلوا دين المرسلين، ونشطوا في زرع طريقة الجاهلين.
فإذا ببدعهم تسرق الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع.
وفوات سلوك الصراط المستقيم ... حتى عظمت المفاسد وكثرت القبائح ... التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته وسلمت سريرته.
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها)) رواه الإمام أحمد.
وهذا أمر يجده من نفسه من نظر في حاله من العلماء، والعباد، والأمراء والعامة وغيرهم. ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع، وكرهتها. لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافاً لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفاً. بل لابد أن يوجب له فساداً، منه نقص منفعة الشريعة في حقه، إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض منه .... الخ). اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 484.
وإذا دخلت الأهواء في مثل هذا الباب أفسدت فساداً عريضاً .. واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات، لأن اتباع الأهواء في الديانات حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كما قال سبحانه: ((فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ)) (القصص: 50). انظر الفتاوى لابن تيمية (28/ 132).
وقد قال قتادة رحمه الله: (لقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها) رواه الطبري في التفسير 1/ 537، والأزرقي في أخبار مكة 2/ 29.
وإذا علمنا ذلك علمنا كيف خاف الأنبياء على أنفسهم من الشرك فقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ((وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ)) ((إبراهيم:35)). فإبراهيم عليه السلام يدعو بهذا لما شهده وعلمه من كثرة من ضلوا بسبب هذه الأصنام من الناس .. ومن فُتِنوا وافتتنوا بعبادتها ... وهم خلق كثير ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) (إبراهيم: 36).
فالمقصود أن الطريق الذي يدعو إليه الكاتب للتأثير على النفوس بإحياء تلك الأماكن .. وبناء المساجد عليها وما شابه ذلك. هو طريق خاطئ .. وهو طريق هلكت بسببه أممٌ قبلنا .. وليس من دين الإسلام في شيء.
والتأثير الصحيح على النفوس إنما يكون بتذكيرها بهذا الوحي العظيم .. تذكيرها بالكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم ((فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)) (ق: 45).
ثم ذكر الكاتب ما نقله العلامة محمد بن سعد بن منيع الزهري في الطبقات الكبرى بسنده إلى معاذ بن محمد الأنصاري قال: (سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود فحضرت كتاب الوليد بن عبدالملك يُقرأ بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله، فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم.
¥