لك أن تذكر الآية التي ذكرها ابن حزم وهي قوله تعالى: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [غافر-5] .. هل هذا هم خاطر وحديث نفس، أم هم فعل؟
وقوله تعالى: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [التوبة- 13] هل هذا هم خاطر وحديث نفس، أم هم فعل؟
وقال تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ) [التوبة- 74] هل هذا هم خاطر وحديث نفس، أم هم فعل؟
فالهم كما جاء في اللغة أنه حديث النفس والخاطر، ففي اللغة أيضاً، يقال: هَمَمْتُ بفلان، أي: قصدته ودفعته ..
- في حين أن أكثر المفسرين ومنهم شيخ الإسلام قال في الفتاوى (10/ 296):
َالْهَمُّ اسْمُ جِنْسٍ تَحْتَهُ نَوْعَانِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد الْهَمُّ هَمَّانِ: هَمُّ خَطَرَاتٍ وَهَمُّ إصْرَارٍ .. وَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ وَلِذَلِكَ صَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ لِإِخْلَاصِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَامَ الْمُقْتَضِي لِلذَّنْبِ وَهُوَ الْهَمُّ وَعَارَضَهُ الْإِخْلَاصُ الْمُوجِبُ لِانْصِرَافِ الْقَلْبِ عَنْ الذَّنْبِ لِلَّهِ فَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ إلَّا حَسَنَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا. اهـ
فهذا على أساس أن الهم هنا هو هم الخطرات .. يعني أنه عليه السلام جال في خاطره أن يطاوعها إلى فعل الفاحشة ..
فيقال: هل الأفضل أن ننسب لنبي الله التفكير في الزنا وجولانه في خاطره ولو للحظة، أم نقول بقول ابن حزم أنه ما هم بالفاحشة قط؟
ما الذي يلجئنا أن نقول بأنه هم بالفاحشة؟
أليس في النص الصريح أن الله برأه من السوء والفحشاء؟
وهل هناك سوء أكثر من الهم بالفاحشة، وأي فاحشة هي تلك؟
ونلاحظ أن كلمتي السوء والفحشاء الألف واللام فيهما جاءتا للاستغراق التام، وكأن المنفي أي سوء أو فحشاء ولو كان هماً في الخاطر والنفس لم يتجاوز الفعل ..
وهذا أكمل في باب العصمة كما هو ظاهر ..
- لماذا نقول أن الهم في هذه الآية – على الأقل في حق يوسف – ليس هما بالفاحشة مع أنه مقتضى الفطرة والطبيعة؟
نقول - كما ذكره ابن حزم أعلاه – القرآن هو الذي صرح بأن هم نبي الله يوسف ليس هما بالفاحشة .. والسبيل إلى معرفة ذلك بتساؤل بسيط:
هل الهم بالفاحشة سوءٌ أم ليس بسوء؟
الشرع والعقل والفطرة يقولان أن الهم بالفاحشة سوء مؤكد، ولكن لا يقع عليه عقاب ما لم يفعله.
- ونحن إذ قررنا ذلك، نضع قول الله تبارك وتعالى أمام أعيننا لنبصر طهارة نبي الله يوسف من الهم بالفاحشة ..
قال تعالى: (رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)
وأنا أعرض الآية على هذا النحو لكي لا نتشوش برأي من قال بالتقديم والتأخير في جواب لولا .. و لكي ننهي هذه المسألة أنقل فقط كلاما قيما لابن القيم ..
قال في الصواعق المرسلة (2/ 716): وأما ما يدعى من التقديم والتأخير في قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) وأن هذا قد تقدم فيه جواب لولا عليها فهذا أولا لا يجيزه النحاة ولا دليل على دعواه ولا يقدح في العلم بالمراد. اهـ
- إذاً: المتحقق يقينا بنص القرآن، أن نبي الله يوسف رأى برهان ربه – أيا كان هو لنخرج من الخلاف – فصرف الله عنه السوء والفحشاء إذ إنه من عباد الله المخلصين.
والمخلصين بالفتح أي المصطفين وبالكسر من الإخلاص ..
قال القرطبي: وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " المخلصين " بكسر اللام، وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله.
وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته، وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين، لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى، مستخلصا لرسالة الله تعالى. اهـ
فوصفه بالإخلاص ها هنا أكبر دليل على أنه ما هم بالفاحشة قط ..
فالإخلاص عمل قلبي لا يطلع عليه إلا الله، والهم بالفاحشة ينافي الإخلاص بداهة ..
¥