وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حُدِّثوا أنه قد قُتل أن يؤتى بشيء منه يُعرف، وكان قتل رجلا من عظمائهم , فبعث الله لعاصم مثل الظُّلَّة من الدَّبْر فحَمَته من رسلهم فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئا".
فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المائة أو المائتين، و لم يستأسروا لهم حتى قَتَلوا منهم سبعة. ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتباعهم حتى قتلوه.
و هؤلاء من فضلاء المؤمنين و خيارهم؛ و عاصم هذا هو: جد عاصم بن عمر، و عاصم بن عمر جد عمر بن عبد العزيز؛ فإن عمر بن الخطاب كان قد نهى الناس أن يشوب أحد اللبن بالماء للبيع.
(كذلك في مراسيل الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
لأنه يفضي إلى غش لا يعلم به المشتري؛ فإن البائع و إن أخبر المشتري بأنه مغشوش؛ لكنه لا يتميز قدر الغش و لهذا نهى العلماء عن مثل ذلك).
فبينما عمر ذات ليلة يَعُسُّ إذ سمع امرأة تقول لأخرى: قومي فشوبي اللبن.
فقالت: إن أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك.
فقالت: و ما يدري أمير المؤمنين؟
فقالت: لا و الله لا نطيعه في العلانية و نعصيه في السر.
فعَلَّم عمر على الباب فلما أصبح سأل عن أهل ذلك البيت فإذا به أهل بيت عاصم هذا أمير المؤمنين المُستَشْهَد و المرأة المطيعة ابنته فخطبها و تزوجها.
و قد روي: أنه زوجها ابنه عاصم هذا. و إن كان عمر قبل ذلك تزوج ابنة عاصم هذا فولدت له عاصما ابنه، و صدق عمر بن عبدالعزيز من ذرية عاصم.
و أيضا: ففي "السنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عجب ربنا من رجلين:
رجل ثار عن وطائه من بين حيه و أهله إلى صلاته، فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من أهله و حيه إلى صلاته رغبةً فيما عندي وشفقًا مما عندي.
و رجلٍ غزا في سبيل الله عز و جل فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع فرجع حتى يهريق دمه.
فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبةً فيما عندي وشفقًا مما عندي حتى يهريق دمه".
فهذا رجل انهزم هو وأصحابه، ثم رجع وحده فقاتل حتى قُتل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله يعجب منه؛ و عجب الله من الشيء يدل على عظم قدره، و أنه لخروجه عن نظائره يعظم درجته ومنزلته.
وهذا يدل على: أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضي، لا يكتفى فيه بمجرد الإباحة و الجواز حتى يقال: و إن جاز مقاتلة الرجل حيث يغلب على ظنه أن يُقتل فترك ذلك أفضل.
بل الحديث يدل على: أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه، و معلوم أن مثل هذا الفعل يُقتل فيه الرجل كثيراً أو غالباً، و إن كان ذلك لتوبته من الفرار المحرم؛ فإنه مع هذه التوبة جاهَدَ هذه المجاهدة الحسنة.
قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 110]
و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
فمن فتنه الشيطان عن طاعة الله ثم هجر ما نهى الله عنه و جاهد و صبر كان داخلا في هذه الآية.
و قد يكون هذا في شريعتنا عِوضًا عما أُمر به بنو إسرائيل في شريعتهملما فُتنوا بعبادة العجل بقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 54].
و قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ .. } [سُورَةُ النِّسَاءِ: 64 - 66].
و ذلك يدل على: أن التائب قد يؤمر بجهاد تعرض به نفسه للشهادة.
¥