تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فإن قيل: قد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [سُورَةُ الأَنْفَالِ: 65 - 66].

و قد قالوا: إن ما أمر به من مصابرة الضِّعف في هذه الآية ناسخٌ لما أمر به قبل ذلك من مصابرة عشرة الأمثال.

قيل: هذا أكثر ما فيه أنه لا تجب المصابرة لما زاد على الضعف ليس في الآية أن ذلك لا يستحب و لا يجوز.

و أيضا: فلفظ الآية إنما هو خبر عن النصر مع الصبر و ذلك يتضمن وجوب المصابرة للضِّعف و لا يتضمن سقوط ذلك عما زاد عن الضعف مطلقا بل يقتضي أن الحكم فيما زاد على الضعفين بخلافه فيكون أكمل فيه، فإذا كان المؤمنون ظالمين لم يجب عليهم أن يصابروا أكثر من ضعفيهم، و أما إذا كانوا هم المظلومين و قتالهم قتال وَقَعَ عن أنفسهم فقد تجب المصابرة كما وجبت عليهم المصابرة يوم أحد و يوم الخندق مع أن العدو كانوا أضعافهم.

و ذمّ الله المنهزمين يوم أحد و المُعرضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران و الأحزاب؛ بما هو ظاهر معروف.

و إذا كانت الآية لا تنفي وجوب المصابرة لما زاد على الضعفين في كل حال، فأن لا تنفي الاستحباب و الجواز مطلقا أولى و أحرى.

فإن قيل: قد قال الله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 195]

، وإذا قاتل الرجل في موضع فغلب على ظنه أنه يُقتل فقد ألقى بيده إلى التهلكة.

قيل: تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا مازال الصحابة و الأئمة ينكرون على من يتأول الآية على ذلك كما ذكرنا:

أن رجلا حمل وحده على العدو فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر بن الخطاب: كلا و لكنه ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 207].

و أيضا: فقد روى أبو داود و النسائي و الترمذي من حديث يزيد بن أبي حبيب –عالم أهل مصر من التابعين- عن أسلم أبي عمران قال: غزونا بالمدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبدالرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: لا إله إلا الله! يلقي بيده إلى التهلكة؟!

فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم و أظهر الإسلام قلنا: هَلُمَّ نقم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 195].

فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نقيم في أموالنا و نصلحها و ندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية.

قال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب".

و أبو أيوب من أجلّ السابقين الأولين من الأنصار قَدْرًا، و هو الذي نزل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته لما قدم مهاجرا من مكة إلى المدينة، و رهطه بنو النجار هم خير دور الأنصار كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، و قبره بـ "القسطنطينية". قال مالك: "بلغني أن أهل القسطنطينية إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيستقون".

وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدو ملقياً بيده إلى التهلكة دون المجاهدين في سبيل الله، ضد ما يتوهمه هؤلاء الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه؛ فإنهم يتأولون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله. و الآية إنما هي أمرٌ بالجهاد في سبيل الله ونهي عما يصد عنه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير