و الأمر في هذه الآية ظاهر كما قال عمر و أبو أيوب و غيرهما من سلف الأمة؛ و ذلك أن الله قال قبل هذه الآية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 190 - 191].
و قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} إلى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 193 - 195].
فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله و إنفاق المال في سبيل الله، فلا تناسب ما يضاد ذلك من النهي عما يكمل به الجهاد و إن كان فيه تعريض النفس للشهادة، إذ الموت لا بد منه، وأفضل الموت موت الشهداء.
فإن الأمر بالشيء لا يناسب النهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يُضِلُّ عنه؛ و المناسب لذلك: ما ذُكر في الآية من النهي عن العدوان، فإن الجهاد فيه البلاء للأعداء؛ و النفوس قد لا تقف عند حدود الله بل تتبع أهواءها في ذلك، فقال: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 190].
فنهى عن العدوان؛ لأن ذلك أمرٌ بالتقوى، و الله مع المتقين كما قال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 194]. و إذا كان الله معهم نصرهم و أيَّدهم على عدوهم فالأمر بذلك أيسر، كما يحصل مقصود الجهاد به.
و أيضا: فإنه في أول الآية قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} و في آخرها قال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 195]. فدلّ ذلك على ما رواه أبو أيوب من أن إمساك المال و البخل عن إنفاقه في سبيل الله و الاشتغال به هو التهلكة.
و أيضا فإن أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلم فيها برأيه و هذا من ثابت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم و هو حجة يجب اتباعها.
و أيضا: فإن التهلكة و الهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فعل ما نهى الله عنه.
فإذا ترك العباد الذي أُمروا به، و اشتغلوا عنه بما يصدّهم عنه؛ من عمارة الدنيا هلكوا في دنياهم بالذلّ و قَهْر العدو لهم، و استيلائه على نفوسهم و ذراريهم و أموالهم، و رَدِّه لهم عن دينهم، و عجزهم حينئذ عن العمل بالدين، بل و عن عمارة الدنيا و فتور هممهم عن الدين، بل و فساد عقائدهم فيه. قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 217]. إلى غير ذلك من المفاسد الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة.
فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكا عظيما باستيلاء العدو عليها و تسلطه على النفوس و الأموال. و تَرْكُ الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يشاهده الناس و أما في الآخرة فلهم عذاب النار.
و أما المؤمن المجاهد؛ فهو كما قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [سُورَةُ التَّوْبِةِ: 52].
¥