فأخبر أن المؤمن لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين: إما النصر و الظَّفَر و إما الشهادة و الجنة، فالمؤمن المجاهد إن حيي [حيي] حياة طيبة، و إن قُتل فما عند الله خير للأبرار.
و أيضا: فإن الله قال في كتابه: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 154].
و قال في كتابه: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 169].
فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد أنه ميِّت. قال العلماء: و خُصَّ الشهيد بذلك؛ لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت فيفرّ عن الجهاد خوفا من الموت. و أخبر الله أنه حيٌّ مرزوق؛ و هذا الوصف يوجد أيضا لغير الشهيد من النبيين و الصِّدِّيقين و غيرهم لكن خُصَّ الشهيد بالنهي لئلا ينكل عن الجهاد لفرار النفوس من الموت.
فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميتاً واعتقاده ميتاً؛ لئلا يكون ذلك منفِّرًا عن الجهاد، فكيف يسمى الشهادة تهلكة؟ و اسم الهلاك أعظم تنفيراً من اسم الموت.
فمن قال: قوله: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 195]
، يُراد به الشهادة في سبيل الله، فقد افترى على الله بهتانًا عظيما.
و هذا الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يُقتل قسمان:
· أحدهما: أن يكون هو الطالب للعدو؛ فهذا الذي ذكرناه.
· و الثاني: أن يكون العدو قد طَلَبَه، و قتالُه قتالُ اضطرار؛ فهذا أولى و أوكد.
و يكون قتال هذا: إما دفعًا عن نفسه و ماله و أهله و دينه.كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، و من قُتل دون دمه فهو شهيد، و من قُتل دون حُرمته فهو شهيد". قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". ويكون قتاله دفعًا للأمر عن نفسه أو عن حرمته، و إن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان القتال يُحَصِّل المقصود، و إما فعلا لما يقدر عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت و أصحابه.
و من هذا الباب: الذي يُكرَه على الكفر فيصبر حتى يُقتل و لا يتكلم بالكفر؛ فإن هذا بمنزلة الذي يقاتله العدو حتى يقتل ولا يستأسر لهم، و الذي يتكلم بالكفر بلسانه وهو موقن من قلبه بالإيمان بمنزلة المستأسر للعدو.
فإن كان هو الآمر الناهي ابتداءً كان بمنزلة المجاهد ابتداء. فإذا كان الأول أَعَزَّ الإيمان و أذلَّ الكفر كان هو الأفضل. وقد يكون واجبا إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب و غَلَبة الكفر عليها و هي الفتنة، فإن الفتنة أشدّ من القتل. فإذا كان بترك القتل يحصل من الكفر ما لا يحصل بالقتل، و بالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه: تَرَجَّحَ القتل واجبًا تارةً ومستحبا أخرى. وكثيرا ما يكون ذلك تخويفا به فيجب الصبر على ذلك.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 217].
فأَخْبَرَ: أن الكافرين لا يزالون يقاتلون المؤمنين حتى يردُّوهم عن دينهم. و أخبر: أنه من ارتدّ فمات كافرا خالدا في النار.
و من هذا: ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه:
كما قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} إلى قوله: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 26 - 28].
¥