معاوية أيام كان قاضيًا، قال: ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد
عليه، هذا ما قال وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقًا من غير حجة
سواها.
فإن قيل: هذا مشكل من وجهين: أحدهما أنه خلاف ما نقل عن أرباب
المكاشفات والكرامات، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء، كان جائزًا لهم في الظاهر
تناولها اعتمادًا على كشف أو إخبار غير معهود، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي
حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال، فرأى بالبادية شجرة تين فَهَمَّ أن يأكل منها،
فنادته الشجرة: لا تأكل مني فإني ليهودي، وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة
قليلة الدخول، وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنو منها زجر عنها، فامتنع وخرج فبعد
ثلاثة أيام ظهر لها زوج، وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها،
هل هذا المتناول حلال أم لا؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض
أصابعه، إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك، فيمتنع منه، وأصل ذلك حديث أبي
هريرة - رضي الله عنه - وغيره في قصة الشاة المسمومة، وفيه فأكل رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم، وقال: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها
مسمومة ومات بشر بن البراء. الحديث، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على
ذلك القول، وانتهى هو، ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار، وهذا أيضًا موافق
لشرع من قبلنا، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ، وذلك في قصة بني إسرائيل، إذ
أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله، فرتب عليه
الحكم بالقصاص. وفي قصة الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام، وهو ظاهر في
هذا المعنى إلى غير ذلك، مما يؤثر في معجزات الأنبياء - عليهم السلام -،
وكرامات الأولياء رضي الله عنهم.
والثاني: أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء،
كالعادات بالنسبة إلينا، فكما لو دلنا أمر عادي إلى نجاسة الماء أو غصبه لوجب
علينا الاجتناب فكذلك هاهنا؛ إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب، أو من عالم
الشهادة، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ورؤيتها بعين
الكشف الغيبي، فلا بد أن يبنى الحكم على هذا، كما يبنى على ذلك، ومن فرق
بينهما فقد أبعد.
فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابًا
وعملاً بما هو مشروع على الجملة، وذلك من وجهين:
(أحدهما) الاعتبار بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فيلحق به
في القياس ما كان في معناه، إذ لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي
صلى الله عليه وسلم، حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع، وإنما يختص به
من حيث كان معجزًا، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا على أن
خرق السفينة، قد عمل بمقتضاه بعض العلماء بناءً على ما ثبت عنده من العادات.
أما قتل الغلام فلا يمكن القول به. وكذلك قصة البقرة منسوخة على أحد التأويلين،
ومحكمة على التأويل الآخر على وفق القول المذهبي في قول المقتول: دمي عند
فلان.
(والثاني) على فرض أنه لا قياس وهو خلاف مقتضى القاعدة الأولى إذ
الجاري عليها العمل في القياس. ولكن إن قدرنا عدمه، فنقول: إن هذه الحكايات
عن الأولياء مستندة إلى نص شرعي، وهو طلب اجتناب حزاز القلوب الذي هو
الإثم، وحزاز القلوب يكون بأمور لا تنحصر، فيدخل فيها هذا النمط، وقد قال
عليه السلام: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك) فإذا لم
يخرج هذا عن كونه مستندًا إلى نصوص شرعية عند من فسر حزاز القلوب
بالمعنى الأعم الذي لا ينضبط إلى أمر معلوم.
ولكن ليس في اعتبار مثل هذه الأمور ما يخل بقاعدة شرعية، وكلامنا إنما
هو في مثل مسألة ابن رشد وأشباهها، وقتل الخضر الغلام على هذا لا يمكن القول
بمثله في شريعتنا ألبتة، فهو حكم منسوخ، ووجه ما تقرر أنه إن كان ثم من
الحكايات ما يشعر بمقتضى السؤال، فعمدة الشريعة تدل على خلافه، فإن أصل
الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصًا، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير
عمومًا أيضًا، فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - مع إعلامه بالوحي، يجري
الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، وإن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك
¥