المحدثين والفقهاء بأن أقوى ما روي في هذا الباب حديث علي الذي أشرنا إليه آنفًا،
والقصة تدل على أن هذا كان معروفًا مستفيضًا بين الصحابة، يعرفه النساء
والرجال، وما كان كذلك تكثر الروايات الصحيحة فيه. والمعروف الذي تداولوه
وبحثوا فيه حديث علي وقد علمت ما فيه، وحديث ابن عمر مرفوعًا: (لا يقرأ
الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو ضعيف
، وفي المعنى حديث جابر مرفوعا: (لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئًا)
، رواه الدارقطني وهو واهٍ أو موضوع، وأقوى ما في الباب من الآثار ما صح
عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب.
لم يذكر الحافظ ابن حجر قصة عبد الله بن رواحة في ترجمته من كتابه
(الإصابة)، وهي في كنز العمال تختلف عما في الاستيعاب، فقد عزاها إلى ابن
عساكر من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ وفيه أن امرأة عبد الله لما رأته مع
الجارية رجعت، وأخذت الشفرة فلقيها، فقالت: لو وجدتك حيث كنت لوجأتك بها (
أي بالشفرة) فأنكر أنه كان مع الجارية، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، فقالت: اقرأه، فقال:
أتانا رسول الله يتلو كتابه كما لاح مشهور من الصبح ساطع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا اشتغلت بالكافرين المضاجع
قالت: آمنت بالله وكذبت بصري، قال عبد الله بن رواحة: فغدوت على
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، حتى بدت نواجذه، وكأن السيوطي
رجح هذه الرواية على اعترافه بضعفها على رواية ابن عبد البر فاقتصر عليها،
ويعلم السائل أن ابن قدامة أورد رواية أخرى في المسألة، وفيها أنه لما أنكر على
امرأته، قالت له: اقرأ القرآن؛ فأنشد:
شهدت بإذن الله أن محمدًا رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل
وقد روى هذه الرواية من طريق أبي بكر بن شيبة عن أسامة عن نافع، وسنده
إليه ضعيف، فقد طعنوا في عبد العزيز الكناني وشيخه عبد الرحمن بن عثمان
وقالوا في شيخه عمه محمد بن القاسم: إنه قد اتهم في إكثاره عن أبي بكر أحمد بن
علي، فهذه ثلاث روايات في الشعر الذي قيل: إن عبد الله بن رواحة أنشده،
الثالثة منها ما أورده ابن عبد البر وهي:
شهدت بأن وعد الله حق وإن النار مسرى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا
ولم يستدل الفقهاء بشيء منها على تحريم التلاوة على الجنب على أنها
أصرح شيء فيه، وما ذلك إلا لعدم اعتمادها أو وضعها.
أما وجه حكمي بوضعها فهو ما فيها من نسبة تعمد الكذب من صحابي من
الأنصار الأولين الصادقين الصالحين، وتسميته الشعر قرآنًا أي نسبته إلى الله عز
وجل القائل فيه: ? وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر ? (الحاقة: 41) وإقرار النبي صلى
الله عليه وسلم له على ذلك بالضحك الدال على الاستحسان، كما صرح به في
بعض الروايات، وقد صرح العلماء بأن من نسب إلى القرآن ما ليس منه كان
مرتدًّا.
* * *
(حديث كل قرض جر نفعًا)
(ج6) (حديث كل قرض جر نفعًا فهو ربا) ضعيف، بل قال الفيروزآبادي:
إنه موضوع ولا عبرة بأخذ كثير من الفقهاء به، كما قال المحدثون وهم أهل هذا
الشأن، وقد بينا ذلك في ص362 وما بعدها من مجلد المنار العاشر في سياق
الفتوى في أمانات المصارف (البنوك)، والنفع عندهم عام يشمل العين والمنفعة،
ولا يحرم إلا إذا اشترط في العقد، وقد بينا هناك في المنار جواز أن يؤدي المدين
أفضل مما أخذ.
* * *
(القرض بالشرط الفاسد)
(ج7) من أقرض الغواصين بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، كان هذا
الشرط فاسدًا، فإنهم إذا لم يغوصوا معه لا يلزمهم إلا وفاء الدين، بل الظاهر أن
هذا وعد لا شرط، والوعد يجب الوفاء به ديانة لا قضاء عند جماهير الفقهاء، أي أن
الحاكم لا يجبر الواعد أن يفي بوعده، ولا يحكم للموعود بأن الموعود به حق له.
* * *
(البيع بشرط عمل أجنبي عن العقد)
(ج8) إذا باع صاحب السفينة للغواص سلعة بثمن مؤجل بشرط أن يغوص
معه فجماهير الفقهاء لا يعتدون بهذا الشرط، والقول فيه كالقول في مثله في المسألة
السابقة أي أن قبول المشتري له عبارة عن وعد منه، وهو لا يجب عليه للبائع
¥