أما القضية الثالثة في الدراسات العليا فهي قضية الإرشاد والإشراف على طلاب الدراسات العليا، سواء كان في المواد الأساسية لطلاب الماجستير أو بعد اجتياز ما يسمى بالاختبار الشامل Comprehensive or Qualifying Exams لطلاب الدكتوراه، وهذا الاختبار في نظري ضروري ومهم جداً؛ لأنه يقيس قدرة الطالب على التحصيل المعرفي الضروري، وكذلك تمثيل وتقييم وربط الأفكار والنظريات والقدرة على النقد الموضوعي والاستعداد للابتكار والإبداع.
إنَّ عملية الاختيار للمرشد على طلاب الدراسات العليا يجب أن تكون مرتبطة بعملية الإشراف بحيث تكون مخططاً لها وتحقق أهداف الدراسات العليا من حيث قدرة المرشد وكذلك المشرف على العطاء والتميز بحسب ووفق التخصص والخبرة والانسجام بين الطرفين؛ وذلك لأن المؤمل من عملية الإشراف هو الأخذ بيد الطالب واستثارة مكامن قدراته واستعداداته واهتماماته وأفكاره للبحث والكتابة الأصيلة المبدعة وتقديم النموذج العلمي الصالح والمناسب المتمثل في شخصية الأستاذ خلقاً وعلماً.
لقد شاهدت بعض المشرفين على طلاب الدراسات العليا وهم يقضون الساعات والساعات مع طلابهم وفق تنظيم وترتيب مسبق ويحتفظون بجداول أمامهم لتنظيم تلك المواعيد بشكل دوري، وهذا نموذج على المعنى الحقيقي للأستاذية والإخلاص والإشراف، ولنا أن نتوقع ما ينتج عن مثل هذا التفاعل وهذه العلاقة والعطاء والقدوة الفاضلة، وفي المقابل هناك بعض المشرفين على بعض الطلاب في الدراسات العليا يعتبر إشرافهم اسمياً فقط، بينما من يقوم بالإشراف إما مشرفين من الباطن أو يقوم الطلاب بالإشراف على أنفسهم، وهذه صورة أخرى، ومع الأسف الشديد لا أستطيع أن أقول إنها حالة أو حالات شاذة، وإنما تلحظ كثيراً، وقد يكون مبعث ذلك هو الضغط الضخم في عدد من يقوم البعض بالإشراف عليهم؛ فينتج عن ذلك عسر وابتسار في النواتج وغش وزيف لها. ومثل هذا النمط من المشرفين لا يجد وقتاً للعطاء - إذا كان لديه قدرة على العطاء - فضلاً عن السعي واللهفة على تخريج أكبر عدد ممكن لدوافع مادية أو ربما إعلامية صرفة ويا لهول النواتج في مثل حالات الإشراف الأخيرة. أما النوع الثالث (الوسط) فهو الذي يجتهد في حدود المعقول في الإشراف على الطلاب، وهو هنا يعاني من ضغط الطلاب في الرغبة في الإنجاز السريع في ضوء المقارنات مع الزملاء الذين يتخرجون في زمن قياسي، ولكن النتيجة والمحصلة في الأخير ترقى إلى الوصول إلى الحد المطلوب تحقيقه في طلاب الدراسات العليا.
فما نوع الإشراف والإرشاد الذي نحتاج؟ وكيف نقنن ونتابع عمليات الإشراف التي ينتج عنها الباحث والبحث الأصيل؟
إن الجامعات التي تقوم بتأسيس تقييم داخلي دوري للعملية التعليمية برمتها وعلى وجه الخصوص الدراسات العليا ومخرجاتها، هي الجامعات الحريصة على أدائها الجيد والأمين وهي الجامعات الحريصة على احتلال المرتبة التي تليق بها وبسمعتها.
إن موضوع العلاقة بين المشرف والطالب، وبخاصة في مرحلة الدكتوراه، يتجاوز المراجعة والتقييم لعمل الطالب؛ فهي تبدأ أساساً من حسن اختيار موضوع البحث (الدراسة) التي غالباً ما تتطلب خبرة وحصافة وقيادة من المشرف في الاختيار؛ لأن المطلوب في موضوع الدكتوراه أن يكون أصيلاً، كما نصت على ذلك لوائح الدراسات العليا، بل كما يتطلب ذلك المنطق العلمي لهذه المرحلة، ولكي يكون البحث أصيلاً ومبدعاً أعتقد أنه لا بد أن يتسم بالخصائص الآتية:
1) الجدة في الموضوع: ولا أعني بالجدة هنا ألا يكون قد سبق أن قام أحد ببحث الموضوع من قبل، وإن كان هذا وارداً، بل أن تكون المعالجة والإضافة فيها جدة وأصالة.
2) الإضافة العلمية للبحث: وبخاصة فيما يتعلق بالإضافة إلى النظرية أو الفكر العلمي في مجال الاختصاص.
3) حل مشكلة أو تقديم اقتراح أو تقديم اختراع أو ابتكار علمي؛ فإن البحث أو الدراسة الأصيلة هي التي تقدم حلولاً لمشكلة اجتماعية أو تربوية أو فقهية أو لغوية أو علمية أو طبية أو هندسية أو زراعية أو بيئية أو خلافها أو تقدم حلاً لمشكلة منهجية أو تقدم برنامجاً أو خطة لحل مشكلة أو تقديم اختراع أو ابتكار علمي. وما أحوجنا في أيامنا هذه لبحوث تسهم في حل مشكلات أمراض طارئة ومخيفة أو نقص حاد في مصادر المياه أو خلافها.
هذه في نظري أهم العناصر أو السمات التي يجب أن تتسم بها الرسائل العلمية في مرحلة الدكتوراه جميعها أو بعض منها وبالذات لتلك التي يطمح إلى أن تكون رسائل علمية يوصى بطبعها أو تستحق الجوائز والنشر.
وفي ضوء هذه المعطيات يبرز السؤال التلقائي: من هو المشرف القادر على تحفيز وتشجيع طلاب الدراسات العليا الموهوبين للوصول إلى مثل هذه المخرجات العلمية في رسائلهم؟ ألسنا بحاجة إلى إعادة تقييم برامجنا في الدراسات العليا برمتها وفي مرحلة الدكتوراه على وجه الخصوص للوصول إلى المعرفة الأصيلة والمبدعة والمنتجة ومعرفة واقعنا من هذه المعايير ومخرجات رسائل طلابنا وعلاقتها بتنمية المجتمع وحل مشكلاته وتطوير العلم وأدواته ونظيراته؟؟؟
الدراسات العليا في الجامعات السعودية بين مطرقة سد الحاجة وسندان الجودة والتميز 2 ( http://www.al-jazirah.com.sa/2009jaz/aug/21/ar3.htm)
¥