وبعد، فقد كانت تلك محاولة متواضعة للكشف عن بعض أوجه التناسب القرآني عامة، والتناسب في سورة البقرة على وجه الخصوص، حيث سعت الدراسة إلى التعريف بسورة البقرة، وعلم المناسبات في القرآن الكريم، وأبرز المشتغلين بهذا العلم، وأجابت عن شبهات المعارضين، ثم عرّفت بجوانب أهمية هذا العلم، وانتقلت إلى أوجه التناسب القرآني وأنواعه، ثم عرضت لأوجه التناسب الداخلية في سورة البقرة، فأوجه التناسب الخارجية للسورة الكريمة مع غيرها.
الخلاصة: وقد خلصت هذه الدراسة إلى النقاط الآتية:
1) أن فكرة التناسب القرآني قديمة قدم القرآن نفسه، ولطالما لفت النبي ? المسلمين إلى التعامل مع القرآن الكريم باعتباره وحدة واحدة، وتنبه الصحابة ومَن بعدهم إلى أهمية السياق في التوصل إلى الفهم الصحيح للنص القرآني؛ والمعاني الإضافية التي يفيدها ترتيب آي القرآن وسوره، وانطلقوا في تفسيراتهم وتأويلاتهم منها، ولعل ضعف السليقة العربية في العصور التالية من جهة، وتركيز الكثيرين على التفصيلات والتفريعات النحوية والفقهية وغيرهما، مما أدى إلى غياب النظرة الكلية لآيات القرآن الكريم وسوره.
2) بعدما رصد البحث تطور فكرة المناسبة من الشعور بوجودها والتمثيل لها والاستدلال عليها، وما رافق ذلك من جدل أو معارضة، أو قلة اكتراث وتفاعل، فقد خلص إلى أن جل المعارضين لا يعارضون مبدأ التناسب، وإنما يعارضون ما يرونه تكلفاً، وأنّ تراوح المناسبات بين الوضوح والغموض، قد ساهم في ذلك، وأنّ الحديث عن التناسب لم يكن دائماً ينطلق من منهجية علمية مبنية على العلوم اللغوية وغيرها.
3) أن في تفسير الطبري كثيراً من الوقفات في الربط بين أجزاء السورة من خلال أدوات الربط وعلى رأسها حروف العطف، أو من خلال ما أسماه الكلام المحذوف الذي ترك لظهوره، وإن لم يستخدم مصطلح التناسب أو مرادفاته.
4) أن الفخر الرازي هو أبرز من فتح الباب واسعاً لفهم النظم القرآني، ولم يقارب جهوده أحد حتى جاء البقاعي واستوعب ما قيل قبله، وكان عمله في نظم الدرر هو الأوسع والأشمل؛ حيث تحدث عن النظم بدءاً من أجزاء الآية الواحدة وصولاً إلى الحديث عن التناسب في القرآن الكريم جميعه بوصفه كتاباً واحداً، مروراً بالتناسب بين الآيات ثم التناسب بين أجزاء السورة، فالتناسب بين السور.
5) أكدت الدراسة توقيفية ترتيب آيات القرآن الكريم وسوره، بعدما كانت انطلقت منها ابتداء.
6) عزز البحث حقيقة الوحدة الموضوعية في سورة البقرة، من خلال تناسب خاتمتها مع بدايتها، واسمها مع محورها، والتناسب في قصصها، وكذا تناسب فواصلها، وتميزها بمفردات خاصة بها.
7) أن الموضوع الرئيس لسورة البقرة هو كتاب التكليف بالخلافة، وهو الأمر الذي أُسكن لأجله آدم ? وبنوه الأرض، وهو ضمن الوسع، وقد حمل الراية زمناً إبراهيم عليه السلام والصالحون من ذريته من نسل إسحق ويعقوب عليهم السلام، ثم توقفت الإمامة فيهم، بل ولم يعودوا يصلحون لمجرد الطاعة والاتباع لمحمد ?، وقصة البقرة تدل على ذلك، وتدل على البعث الذي فيه يحاسب الناس على قيامهم بالتكليف أو تقصيرهم فيه، والإيمان بل الإيقان به مهم جداً للقيام بحق الخلافة.
8) عزز البحث ما ذكره العلماء من التناسب بين سورة البقرة وكل من سورة الفاتحة، وآل عمران، والفلق، ومجموعة (الم)، بل وسائر السور القرآنية، وبالتالي مركزية السورة بالنسبة لباقي المصحف؛ كونها في أوله وكونها بعد الفاتحة، ما يؤكد اعتبارها أماً ثانية للقرآن الكريم بعد الفاتحة.
9) عزز البحث فكرة الوحدة القرآنية، وما كان كرره السابقون من أن القرآن كالكلمة الواحدة؛ ذلك أن مقتضى وجود المناسبة بين كل سورة والتي تليها يؤدي إلى الاتصال القرآني من أوله إلى آخره، فضلاً عما سبق ذكره من الاتصال بين سورة البقرة ومجموعة (الم)، والتناسب بين سور المسبحات والطواسين والحواميم وغيرها، وكذلك مركزية سورة البقرة لما بعدها من السور الكريمة حتى نهاية المصحف.
التوصيات:
1) يرى الباحث أن ما أورده الإمام الرازي عن المناسبة يستحق الإفراد بالبحث والدراسة، ويحتمل أن تُكتب فيه الرسائل الجامعية، بل إن (تناسق الدرر) للسيوطي، على صغر حجمه، جدير بأن يستخلص منه نظريته في المناسبة.
¥