تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثانياً: التلوينات الصوتية لا تقف عند حدّ معالجة جانب الأداء الصوتي، وإنما تتخذ من اللغة بمستوياتها ميداناً رحباً تنهل من عطائه، وتستمد من تفصيلاته ما يثري جوانب توظيفها، ونطاقات عملها. فالتلوينات تبدأ من معالجة الصوت على المستوى الفينولوجي التوظيفي، وتبحث في كيفية الائتلاف والاختلاف الصوتي داخل بنية الكلمة، ثم تعرج على استثمار معطيات المستوى المورفولوجي التصريفي لتعلّل لظاهرة إيثار الصيغ على الصيغ فيما يُعرَف بفنية (الاختيار)، وما يلحقها من جماليات العدول. كذلك تستثمر التلوينات الصوتية تفصيلات المستوى النحوي بكل أطره وتقعيداته، فتعالج الأساس البنيوي للجملة، وما يلحق هذا الأساس من فنيات الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والبساطة والتعقيد، وغير ذلك من التفصيلات، بما يخدم في نهاية المطاف المستوى الأمثل وهو جانب الدلالة؛ إذ هو مناط توظيف التلوينات، وغاية هذا التعاضد الجمالي لهذه التلوينات مع سياقات النص القرآني.

ثالثاً: أنّ القيم والتلوينات الصوتية تعدّدت وتنوّعت في سياق القرآن الكريم نظراً لتماسها مع مستويات اللغة كلها، وتقاطعها مع تفصيلات هذه المستويات. فنجد منها مثلاً ما يعالج جانب الأداء النطقي فيما يتمثل في التلوين بالفصاحة اللفظية على مستوى المفردة ثم التركيب. ومنها ما يتعلق بجانب الإيقاع الجمالي بما يحويه من استثمار فريد لمعطيات اللغة العربية من ائتلاف الأصوات على نحو موسيقي يُراعي المخارج المتنوعة للصوت، ثم كيفية استقبال المتلقي لهذه الطائفة من الحروف والأصوات المؤتلفة.

كذلك نجد من التلوينات ما يتعلق بالحكاية الصوتية في جانب حكاية الصوت لمعناه ودلالته كما اتضح عند معالجة دلالات الألفاظ القرآنية مثل (كبكبوا، و صرصر، وخرّ، وصرّ، ومسّ، واثاقلتم، وادّاركوا) وغيرها من الألفاظ القرآنية التي تحكي معناها من خلال أصواتها، فيتعانق الصوت مع الصورة معاً لأداء لوحة دلالية غاية في الجمالية والتنسيق الدلالي.

ونلمس من التلوينات الصوتية ما يتعلق بجانب الفاصلة وما تثيره من استنطاقات جمالية في ختام الآيات وفق مقتضى السياق السابق عليها؛ إذ الفاصلة لا تأتي مجردة من الجمالية كبنية وقف، بل هي بنية جمالية قائمة بذاتها تُزَيِّن مفرَق تاج الآية، وتُقَوِّي دلالتها على نحو فريد يجعل من لمح الاتساق الحادث بين الآية وفاصلتها أمر حتمي عند معالجة مثل هذا التلوين.

ومن التلوينات الصوتية ما نلمسه عند معالجة فنية المناسبة الصوتية من خلال الاتكاء على معطيات علم الأصوات في معالجته للتماثل والتخالف الصوتي، وظاهرة الإتباع الحركي، والإدغام، وما تثيره هذه الظواهر مجتمعة من تأثيرات دلالية تتكئ في جوهرها على الأساس الصوتي.

ومن التلوينات الصوتية في النص القرآني من لاحظناه من استثمار المعطى البلاغي متمثلاً في الفنون البديعية ذات الأثر الصوتي الواضح مثل الجناس والتكرار والترديد والتضاد وطباق السلب وغيرها من بديعيات الصوت والدلالة. وهذه المحسنات البلاغية الصوتية تتخذ في معانقتها للنص القرآني صوراً جديدة غير المتعارف عليها عند البلاغيين، ذلك لأن السياق القرآني هو الحاكم في هذا المقام.

وكل هذه التلوينات تتعاضد معاً لإبراز الأثر التوظيفي لها في هيكل السياق الدلالي في القرآن الكريم بما يُمَكِّن من تعضيد فكرة الاقتراب من فهم السياق من خلال نظرة كلية تتكامل فيها عناصر اللغة كلها، دون الاتكاء على نظرات جزئية تستثمر معطيات مستوى لغوي دون آخر.

رابعاً: أسهمت التلوينات الصوتية بشكل واضح ومميز في عملية انتقاء المفردة القرآنية في السياق الجزئي والكلي، وذلك من حيث إبراز القيمة الصوتية لهذه المفردة في ائتلاف أصواتها، وأداء دلالاتها. وهذا الانتقاء الدقيق يُرَاعى فيه فنية التعادل الصوتي للمفردة وتعاضدها بشكل دقيق مع نظائرها السابقة واللاحقة في إطار السياق الموظَّفَة فيه.كما أنّ توظيف الكلمات المؤلفة من أحرف كثيرة مما يستثقل في النص البشري تمّ توظيفها بشكل فريد حين عانقت التلوين الصوتي في السياق القرآني فبرزت هذه الكلمات القرآنية الطويلة على أتمّ ما يكون من التوظيف، وأجمل ما يكون من النظم الدلالي والسياقي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير