والخط النسخ يكاد يكون خط جميع المصاحف المطبوعة والمنتشرة هذه الأيام وهي في أصلها مخطوطات لكبار الخطاطين مثل "الحافظ عثمان" ومصطفى نظيف المعروف باسم قدروغلي" وغيرها، وقد تبارى الخطاطون في كتابة القرآن الكريم حتى تعددت الأقلام وتنوعت الخطوط وأصبح الخط فناً متميزاً.
وعلى وجه العموم فقد ظهرت 6 أقلام في عهد الخليفة المستعصم هي " خط النسخ -الخط المحقق- الخط الثلث- الخط الريحاني- خط التوقيع - خط الرقعة" وقد حذقها جميعاً "ياقوت الرومي" الذي عرف بالمستعصمي وقد اتخذه العثمانيون إماماً لهم في خط النسخ وأطلق عليه لقب "قبلة الكتاب" كما أن هذا اللقب قد أطلق أيضاً على الخطاط العثماني "حمد الله الأماسي" هذا ولا ننسى دور أشهر من كتبوا القرآن الكريم بالخط النسخ وعلى رأسهم "ابن مقلة" و"ابن البواب".
الإعجام
الكتابة العربية في أول الأمر كانت بلا نقط "إعجام" ولا شكل وكانت بعض الحروف متشابهة، مثل الباء والتاء والثاء والسين والشين والصاد والضاد وغير ذلك مما هو معروف في اللغة العربية التي تتميز عن بعضها البعض بإضافة نقط فوق أو أسفل الحرف لتمييزه عن المتشابه معه، وكان العرب أقدر على كتابتها وقراءتها في شكلها المجرد من النقط بشكل صحيح، إلا أن الأمر قد اختلف بعد الفتوح الإسلامية ودخول شعوب جديدة في الإسلام واختلاط العرب بالأعاجم فقد تفشي اللحن في نطلق اللغة العربية بسبب عدم تمكن هذه الشعوب من اللغة العربية وكان لا بد من وضح حد لذلك.
أولى مراحل الإعجام قام بها "أبو الأسود الدؤلي" بتكليف من "زياد بن أبيه" حيث أضاف التشكيل بالنقط إلى الحروف وبمداد لونه أحمر مخالف للون مداد الكتابة، الفتحة نقطة فوق الحرف والكسرة نقطة أسفله والضمة نقطة أمام الحرف وبين يديه، أما التنوين فكان نقطتين إحداهما فوق الأخرى.
ثانية هذه المراحل قام بها "نصر بن عاصم الليثي" و"يحيى بن يعمر العدواني" حيث تم إعجام الحروف المتشابهة بإضافة نقط من نفس لون مداد الكتابة فوق الحرف أو تحته، فمثلاً أضيفت نقطة أسفل الباء ونقطتان فوق التاء وثلاث فوق الثاء تركت السين وتميزت الشين عنها بإضافة ثلاث نقط فوقها، وهكذا.
أما المرحلة الثالثة فهي التي أتمها "الخليل بن أحمد الفراهيدي" حينما استبدل بنقط "أبي الأسود" ذات اللون الأحمر الشكل الذي نعرفه الآن: "الفتحة والكسرة والضمة والتنوين، مع استحداث الشدة والسكون والهمزة والمدة" بمداد من نفس لون الكتابة، وأصبح الإعجام بالنقط وحركات الشكل بمثابة حماية كاملة للغة العربية من اللحن والابتعاد بكلام الله عن اللبس والنطق الخاطئ أو القاصر، هذا بالإضافة إلى أن حركات الشكل استخدمت زخرفاً للخطوط نفسها مما أضفى على الكتابة البهاء والروعة فضلاً عن الجلال والوقار.
الترقيم
وحتى يمكن ختم قراءة القرآن الكريم في ثلاثين ليلة، قُسّم القرآن إلى ثلاثين جزءاً، وتولى الخطاطون كتابة كل جزء على حدة وأطلق على المجموع اسم "ربعة" وقسم الجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أقسام سمي كل قسم منه "مربعاً".
ولترقيم الآيات جمعوا كل خمس آيات مع بعضها، وأشاروا إلى ذلك في الهامش بلفظة "خمس" أو"خ"،وكل عشر آيات "عشر" أو "ع" ودلالة على خمس آيات وعشر آيات، وبعض المصاحف كتب حرف "هـ" يتكرر كل خمس آيات، في موضع فواصل الآيات رمزاً إلى رقم خمس في حساب الجمل، أما ترقيم نهايات الآيات فتم في وقت متأخر واستمر للآن.
الزخرفة:
تزيين المصحف استمر بشكل متواصل على طول التاريخ الإسلامي، استخدمت الوحدات الهندسية والنباتية والكتابية في الزخرفة بشكل متناسق وإيقاع طروب وتكامل لوني مما يعطي للمصحف الشريف شكلاً رائعاً ووقوراً في نفس الوقت.
واتجهت الحاسة الفنية إلى مدى بعيد في زخرفة المصحف واستخدمت زخارف الأرابيسك في تجميل المصحف وتزيينه، ويطلق عليه أحياناً اسم "فن التوشيح" أو "الرقش العربي" كما استخدم بعض نقاد الفن لفظ (العَرَبسة) في وصف هذا النوع من الزخرفة.
ونلاحظ أيضاً أن هذه الزخارف التي استخدمت في تجميل المصحف قد استخدمت في تزيين وتجميل الجدران والأسقف والقباب والعقود الإسلامية، مما يؤكد أثر المصحف الشريف في تطوير الفنون الإسلامية بميادينها المختلفة.
بعض الفنانين قاموا بزخرفة المصحف جميعه، وبعضهم اكتفى بزخرفة صفحات كاملة منه مثل صفحات الفاتحة وأول سورة البقرة، وحول سور الإخلاص والفلق والناس، وأحياناً حول سور الشورى والإسراء ويس وسورة ق. وكان الحرص دائماً على تجميل بداية المصحف وآخره دلالة على أن المصحف تضمه دفتان آية في الجمال والجلال.
ناهيك عن تلك الزخارف في الهوامش مثل الزهيرات والسعيفات والنجيمات والتي تدل على مواضع انتهاء الأجزاء والأحزاب والأرباع وفي مواضع السجدات إضافة إلى تلك الفواصل الزخرفية لتحديد الآيات وأرقامها أو المستطيلات الزخرفية للفصل بين السور المتعاقبة والتي تشتمل على اسم السورة ومكان نزولها وعدد آياتها.
حفظ المصحف وأوراقه من التناثر والعطب أمر دفع إلى تجليد المصحف وقد تبارى المجلدون في إضافة جمال فني إلى جلدة المصحف وتزيينها الأمر الذي جعل هذه الجلود لوحات فنية سواء من الداخل أو من الخارج، وقد صنعت الجلود من الرق أو الورق أو الجلد وقد مرت عملية التجليد بعدة مراحل:
1. تقصير الجلد أي إزالة اللون الطبيعي بواسطة مادة معينة هي عبارة عن طين مجبول من تراب جذور شجر البلوط.
2. تزيين الجلد أو رقشه بالأرابسك بزخارف منوعة باستخدام طلاء الذهب أو طبعه بأختام ساخنة بورق الذهب.
3. تقوية هذه الجلود بدلكها بشمع النحل العذري وهو أمر يكسبها سطحاً براقاً قوياً ناعماً.
ولذلك فالمصحف يصان في غلاف بنفس الجمال والجلال، ولبعض أغلفة المصاحف لسان لتعليم الصفحات ولحماية المصحف، كما لا ننسى أن بعض المصاحف لها صناديق مزخرفة ومزينة بقصد الحماية للمصحف بكامله ورقاً وغلافاً، وتعتبر هذه الصناديق ثروة فنية وهي الأخرى آية من الفن والجمال.
بقلم / عبد الغني محمد عبد الله
مجلة العربي مارس 1993م