وفضلاً عن الدور الزخرفي الجمالي للخط كجزء من المعمار الاسلامي, فإ نقش الخطوط كان يستخدم لاغراض وغايات اخرى, ففي ناحية اولى نجد ان بعض الكتابات تصعب قراءتها وتوجد دائما على مستوى اعلى من نظر الواقف, وذلك اعتماداً على انها كتابات قرآنية مقدسة ومحفوظة لدى المسلمين فتصبح حينذاك كتابة رمزية .. كأنها تتجه للخالق اكثر مما تتجه للانسان وهو في حالة تعبد وتذلل .. وكأني بالكتابة العربية هنا تمارس دوراً رمزياً في التواصل مع الذات الخالقة .. والمفتاح في نظر المؤمن من اجل الولوج في عالم التأمل والتوحد مع الذات الالهية. ان المؤمن اذ يجلس في المسجد سيسترسل بالعبارة ملاحقا زخارف الخط وانحناءاته وتشابكاته ويوغل في صمت مهيب في المكان .. وتتردد في ذاكرته العبارات المحفوظة لديه والمنقوشة ببراعة على الجدران او الاعمدة او رقبة القبة .. فيكون في حالة تأملية خالصة .. انه الدور الاساسي والمهم للخط العربي في الامكنة الدينية.
وفي جانب ثان تمارس الكتابة دورها في الاضرحة وشواهد القبور خاصة اولئك العظام والمشهورين وذوي الحظوة والنفوذ, مما يعني ان الكتابة هنا تأخذ اهمية تاريخية, وعليها ان تظهر كذلك الرهبة في حضرة الضريح او القبر الذي يضم جثمان شخص مهم, وتتضمن هذه الكتابات دائما بعض الآيات القرآنية التي تعد بالجنة ورضى النفس وتستجلب الرحمة للراحل وكذلك تبين اسمه ومعاشه ومماته وحسبه ونسبه وافعاله.
تؤدي الخطوط هذا الدور هنا, متمازجة مع الجو النفسي الطاغي سواء في المقبرة او الضريح فتكون الخطوط متشابكة كتشابك الحياة بالموت وتشابك الانسان بهما, ويطغى اللون الاخضر دالا على جنة الخلد.
اما في المباني الدنيوية فنجد لوحات اخرى تحمل كتابات توثق ذكرى من امر ببناء هذا المكان وتاريخ البدء والانتهاء, وهي غالباً كتابات باردة لانها تحمل طابع التوثيق والتأكيد والاعتداد بهذا المنجر, بعيداً عن نكهة روحية من اي طراز. رغم ان بعض هذه الكتابات عمدت الى استخدام اقتباسات قرآنية سواء بالخط الكوفي او النسخي, وكان بعضها الاخر يتضمن ابيات الشعر ويضيف اسم الحاكم والتاريخ .. والمهندس احياناً وكذل المزخرف او الكاتب.
لقد لعب الخط العربي والكتابة العربية دوراً مهماً في فن العمارة الاسلامية في الناحية الجمالية التشكيلية ولكن دون ان ننسى حديث الخط الذي يقوله للتاريخ وللأجيال اللاحقة.
ان الخطوط تتحدث وتدلل عن طبيعة الانسان العربي والمسلم, فهي تقدم له النصوص والآيات القرآنية المقدسة, وتكرر على الدوام في المشهد البصري حضور المقدس الالهي فيحفظه عملياً كلما غمضت له عين .. وتثبت تاريخه وتاريخ من رحلوا وتركوا بصماتهم وافعالهم.
ان صوت الخط العربي صوت صادق ونظيف وجميل ومستمر واذا كان هناك من يرى ان الكتابة العربية صوتية خالصة, فاننا لابد ان نلاحظ طبيعة هذه الكتابة واسلوبها وفلسفتها ودلالاتها, فالكتابة العربية ذات الحركة الافقية والمستمرة من اليمين الى اليسار تعني الكثير, فهي بانتقالها من اليمين الى اليسار تتوافق مع الانتقال من منطقة الفعل نحو منطقة القلب.
انها تتقدم بمعنى اخر من الخاج نحو الداخل, وتنتقل من الحركة الى التأمل هي الحركة الرائعة في الانتقال من الوجود المادي نحو الوجود الروحي.
انها انتقال سابح من المفرد الى المجموع من القلة نحو الكثيرة .. في سيولة ساكنة مستمرة متصلة .. ابدية .. انه حديث الخط العربي والكتابة العربية الذي لن ينتهي.
(هذه المقالة للدكتور جمعة قاحة، وهي من ثمرات البريد وأردت أن تعم الفائدة لجميع أعضاء منتدى الفصيح)