قال ابن خلدون في (المقدمة): " إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف و فيما وراء الحّس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول و الاتحاد كما أشرنا إليه، و ملأوا الصحف منه، مثل الهروي في كتاب المقامات له و غيره، و تبعهم ابن عربي و ابن سبعين و تلميذهما ابن العفيف، و ابن الفارض و النجم الإسرائيلي في قصائدهم " (ص: 473) طبعة دار القلم 1409.
قال الغزالي في (الإحياء) و هو يشرح التوحيد:" موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث أنه كثير، بل من حيث أنه واحد، و هذه الغاية القصوى في التوحيد ". (ص: 230/ 4).
تعريف الاتحاد:
الاتحاد هو: صعود السالك بروحه بواسطة التجرد و الاستغراق في العبادة حتى يصل إلى - مقام الله - و يتحد معه، فتصير الكثرة في الواحد؛ و الصوفية المغالطون للشرع يخفون - كلمة الاتحاد - بقولهم:-" يفنى في الله " -، وإنما مقصدهم الاتحاد به.
و هنا يجب ملاحظة الفرق بين الاتحاد و الحلول:
فالاتحاد صعود الإنسان من عالم الحسّ و المادة إلى عالم الملكوت، مفارقا كل صور المحسوسات، غائبا عنها منسلخا عن جسده، ليتحد بالخالق في تجلياته؛ بينما الحلول هو: نزول الخالق و حلوله في جميع مخلوقاته، لتكون مظهرا من مظاهره، و امتدادا لوجود.
فالأوّل، أي: الاتحاد عبارة عن الكثرة في الواحد، و الثاني، أي: الحلول عبارة عن الواحد في الكثرة.
و القول أو الاعتبار الأوّل هو الذي وقع فيه الهروي و أبو طالب المكي ثم بعد ذلك الغزالي، كما هو مؤكد في كلامه المنقول آنفا.
والوحدة هي الحلول أو الاتحاد الخاص المعين.
و قد فسر ابن تيمية أقسام ذلك فقال في" المجموع" {172/ 2}:" القسمة رباعية لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة فإما أن يقول بحلوله فيه، أو اتحاده به، و على التقديرين: فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق، كالمسيح أو يجعله عاما لجميع الخلق، فهذه أربعة أقسام:
1 ـ الحلول الخاص وهو قول النسطورية من النصارى يقولون: اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به كحلول الماء في الإناء.
وهؤلاء مثلهم غلاة الرافضة الذين قالوا: إن الله حل في علي بن أبي طالب و أئمة البيت، وكذلك غلاة المتصوفة.
2 ـ الاتحاد الخاص وهو قول اليعقوبية من النصارى وهم أخبث قولا وهم السودان و القبط، يقولون: إن اللاهوت و الناسوت اختلطا و امتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهؤلاء يقول مثلهم ابن عربي.
3 ـ الحلول العام وهو قول الجهمية المتقدمين الذين يقولون: الله بذاته في كل مكان.
4 ـ الاتحاد العام وهم الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات وهم أكفر الطوائف [مثل التلمساني]."
فأصحاب يجعلون هذه العقيدة على أربعة مذاهب:
إما أن يجعلوه جملة المخلوقات ـ أو جزءا من كل مخلوق ـ أو صفة لكل مخلوق ـ أو يجعلونه عدما محضا لا وجود له إلا في الأذهان، لا في الأعيان.
كيف بدأ ظهور هذا الكفر في المسلمين:
فأول ما بدأ ظهور هذه العقائد في الإسلام، و كما أكّد ابن خلدون سابقا، بدأ بالاتحاد الموجود في كلام الهروي و الغزالي، ثم جاء آخرون أقل معرفة بالشرع و أكثر خلطة للفلسفة و الكلام أمثال: ابن عربي، و كانت لهم جرأة فزادوا الاتحاد توسيعا، فوقعوا في الحلول الذي صار امتدادا ضروريا للاتحاد، و لذلك قال ابن عربي عن الغزالي: " أنه قيده الشرع «، أي: أن مخالطته للشرع، و هو الفقه و التفسير و الحديث، منعه من البوح بالحلول.
القسم الثاني من الفناء:
أما القسم الثاني من الفناء: فهو غيبة أحدهم عن سوى مشهوده، بل أنه يغيب عن مشاهده شهوده، و هؤلاء حاول البوطي أن يجعل أصحاب الفناء الأول مثلهم، عندما قال: " و الفرق بين الفناء الثالث (الأول عندنا) و الفناء الثاني (هذا الذي نحن بصدده) في كمية الذهول حتى لا يدري ما يقول مثل الذي قال: " سبحاني، أو: ما في الجبة إلا الله ".
¥