تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فلم يفرق - الدكتور - بين من سكر وفقد تمييزه للأشياء حتى لا يدري ما يقول، فهو غائب العقل مثل السكران من الخمر، فإن حقيقة السكر أن لا يعلم ما يقول، قال تعالى: (لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) " النساء"، و السكر عبارة عن غمور نشوة لذيذة للعقل تفقده توازنه، و قد يحدث بتناول مواد مسكرة، كما قد يحدثه العشق، أو الخوف الشديد، قال تعالى: (و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب الله شديد) (الحج: 2).

و قالوا: كلام السكران يطوى و لا يروى، و وجد في الشرع أحكام خاصة به، لأنه فقد تمييزه.

فإن كان مثل هذا قد فقد وعيه لسبب مباح أو محظور، كالسماع الصوفي، فلم ير في مشاهدته مخلوقا، و التبس عليه الأمر فظن نفسه الله، ثم إذا أفاق عاد عن غيّه و شهد الفرقان بين الحق و الخلق.

أفيمكن أن يقال عن شخص سكر، شهد المشاهدة نفسها، و وقع فيما وقع فيه الأول، إلا أنه عند إفاقته أصرّ، و لم يفرق بين الحق و الخلق، و كتب في ذلك كتبا و صحفا لينصر بها هذا الضلال؛ أفيصح أن نقول:

إن الفرق بينهما في كمية الذهول فقط؟ أم إن الاتحادية زنادقة، دافعوا عن عقيدتهم بالعقل و الفلسفة في يقظة تامة؟.

و هل هؤلاء أصحاب الفناء الأول، فناؤهم مستمر لا ينقطع و لا يفيقون منه، عندما يأكلون، أو ينامون، أو غير ذلك من أمور الحياة، فهم في فناء و اصطلام دائم و متصل، حتى نعذرهم كما ارتأى البوطي؟ أم أن الفناء ذهول ذهني، مؤقت، يزول بزوال سببه من وجد، أو شوق، أو خوف، أو سماع و يعود صاحبه إلى رشده و يقظته؟

فالقاسم الوحيد بين الفنائين هو وقوع كليهما في الاتحاد، أما الأول فلم يعذر لأنه اعتقد ما توهمه في فنائه بعد يقظته، و أعذر الثاني لأنه اعتقده وهو في حالة ذهول، لكنه لاحظ الفرق و هو حاضر.

قال ابن خلدون في (المقدمة): " و صاحب الغيبة غير مخاطب و المجبور معذور فمن علم فضله و اقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا، و أن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد و أمثاله و من لم يعلم فضله و لا اشتهر فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه، و أما من تكلم بمثلها و هو حاضر في حسه و لم يملكه الحال فمؤاخذ أيضا و لهذا أفتى الفقهاء و أكابر المتصوفة بقتل الحلاّج لأنه تكلم في حضور و هو مالك لحاله " (ص: 474).

إن الفناء استهلاك الشيء في الوجود الذهني، لا في الوجود العيني الخارجي، و لذلك أعذر أهل الفناء من القسم الثاني، لأن ما وقعوا فيه من الاتحاد بدون سبب محظور، اتحاد ذهني سببه قوة الوارد من وجد أو خوف أو شوق الذي أسكرهم و أفقدهم وعيهم، فإذا أفاقوا عادوا إلى رشدهم و تابوا من غيّهم.

أما أصحاب الفناء الأول فلم يعذروا لأنّ الاتحاد عندهم عيني خارجي، فهم يكابرون الحق، فصاروا بذلك كفرة، وقعوا فيما وقعت فيه النصارى عندما ادعت حلول الله في المسيح عليه السلام، بل هم أكفر، لأنهم لا يقولون بالحلول في معيّن فحسب، بل الحلول عندهم عام مطلق نابع من عقيدة الفيض الفلسفية.

و سبب القسم الثاني من الفناء قوة الوارد و ضعف المحل عن استقباله و تحمله، و هو صفة نقص فيمن أصيب به، و له سبب آخر هو نقصان العلم و التمييز؛ فإننا لم نجد من عرف بالعلم الشرعي قد أصيب بهذا الفناء و لا ذكره أحد منهم.

و من تنبه لهذين السببين من صلحاء العبّاد، أوصى أتباعه بالتمسك بالعلم الشرعي كما هو مشهور عن أبي سليمان الداراني و غيره.

قال ابن خلدون في (المقدمة): « .... وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب و لا هذا النوع من الإدراك، و إنما همّهم الإتباع و الإقتداء ما استطاعوا، و من عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به، بل يفرون منه و يرون أنه من العوائق و المحن و إنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث و أن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان و علم الله أوسع و خلقه أكبر و شريعته بالهداية أملك .... " (ص: 475).

أين وقع الخلل في توحيد المتصوفة؟:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير