قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح عند ذكر الدّجال: " اعلموا أنه لا يرى أحد منكم ربه حتى يموت "،فعلم بيقين لا ريب فيه، أن دعوى المتصوفة: رؤية الله في الدنيا، كذبة باردة، وقحة سمجة.
بيان سبب ادعاء الصوفية الاتحاد:
فإذا لم يكن الفاني عن نفسه و عن الخلق قد شهد الله، فما سبب اعتقاده أنه شاهد الله، أو أنه قد اتحد به، حتى يقول: «سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله "؟.
إنها الأوهام و الخيالات، فإن قوة الوارد الذي يحدث نتيجة وجده الحاصل من الشوق، أو السماع، أو غيرها من الأسباب المحركة للقلب، لذّة و شعورا مطربا يغمر عقله فيفقده تمييزه، و يحصل له اصطلام كالتخدير و من ثم تستولي عليه الأوهام و الخيالات لفقدان عقله انسجام التفكير وترتيب الصور؛ فإن أصحاب الفناء أصحاب خيال كبير و أوهام، يتخيلون في أنفسهم صورا فيظنونها ثابتة في الخارج، و إنما هي من خيالاتهم، و الخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له.
فحقيقة الفناء تصور باطل، مصدره عقيدة باطلة و ذهول سببه محظور.
فالصوفية أحدثوا تلك الحلقات التي يجذبون فيها بالسماع الباطل، بحثا عن الذهول، و الغشي، والنشوة؛ وقد يستدلون بقصة يوسف عليه السلام لتقرير الفناء كما فعل القشيري.
و ليس في ذهول النسوة عند مشاهدتهن يوسف عليه السلام، و تقطيع ما في أيدهن، حتى تخطاه إلى الأيدي، أي دليل على هذا الفناء المزعوم، لأنه دليل على الباطل، و سمي وراء فتنة النفس من الشهوات و الأهواء، كما أنه دليل على تعرض الإنسان للذهول؛ فنحن وسائر البشر نسلم إمكانية وقوع الإنسان في الذهول لسبب من الأسباب.
فذهول النسوة أحدثه عشقهن الصور الجميلة، و عندما صادف هذا العشق الكامن فيهن مطلوبه، أحدث هذا الالتقاء لذة غمرت العقل، و شدت انتباهه إلى تلك الصور، فطغت اللذة على الألم فأنسته، فهن سكرن بالصورة الجميلة كما يسكر الآخر بالهوى أو الخمر، و لم يتلاش أي شيء عندهن، كما لم يعتقدن أنهن صرن يوسف؛ قال تعالى: (فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن و قلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم)، (يوسف: 31)، فلم يصبن بأي فناء كما تزعم الصوفية.
و ما يحدثه العشق و الهوى بالنفس من ذهول شيء معروف، و لو ضربت دابة حال السفاد لم تذعن، و هذا بسبب طغيان اللذة على الألم، أفيمكن أن نقول عنها: إنها دخلت في فناء؟!
كما تجد أحدهم مطعونا بخنجر، و هو يقاتل لشدة غضبه الذي أنساه الألم، و لو لم يكن غاضبا ثائرا لرأيته يتوجع و يتأوه و لا يصطبر، و إذا تأمل الإنسان في نفسه، يجد أنه عند استيلاء اللذة على عقله و تمكنها منه غاية التمكن، ينسى ما دونها، و قد يفقد السيطرة على نفسه، و لهذا قالت عائشة رضي الله عنها عن تقبيل المرأة في رمضان: (و أيكم أملك لإربه)،فكم من شخص جامع أهله في رمضان لمجرد مداعبة، فوقع في المحظور مع أنه قد يكون من أهل الإيمان و الالتزام.
وذلك الصحابي رضي الله عنه الذي كان قائما يصلي في احدى الغزوات، فرشق بسهم ولم يحرك ساكنا، إنما إستيلاء لذة مناجاة الله عليه، أنسته الإحساس بالألم، فلم يصرخ و لم يتأوّه واستمر في صلاته ليزداد ذوقا لحلاوة الإيمان، فلم يصب بفناء ولا اعتقد أنه شاهد الله، فضلا عن أن يقول " سبحاني "!
و لما كان الفناء عند الصوفية من أعلى مقامات العبادة، و طريقتهم تدور حوله، وهم يأمرون المريد برياضات و تجردات يطول ذكرها، و مقامات يقطعها يصعب عدّها، ليصل إلى مقام الفناء؛ و حصل هذا الفناء أو ما يشبه لنسوة لا دين لهن سوى العشق، علم حينئذ قيمة هذا الفناء الذي تدعي الصوفية أنّه حقيقة التوحيد.
هذا الفناء الذي لم يرد له ذكر، لا في الكتاب، و لا في السنة، و لا في كلام الصحابة و التابعين، و لا في كلام الزهّاد المتقدمين و لا جعلوه غاية و لا مقاما، و قد كانوا أحق الناس بكل كمال، فلقد كانوا أعلم الناس و أقواهم في دين الله، فهم كما قال ابن القيم في (المدارج): " سادات العارفين و أئمة الواصلين و قدوة السالكين، مع قوة إراداتهم و كثرة عباداتهم، ومعاينة ما لم يعاينه غيرهم ولا شمّ له رائحة ولم يخطر على قلبه ".
¥