تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

من فحص موضوع الفناء بدقة، فإنه لا يجد من أصحابه إلا إقرارا بالربوبية و رؤية الله متفردا بالخلق، مدبرا لهم، و رؤية مشيئته نافذة فيهم و هذا و إن كان حقا، فإنه ليس العروة الوثقى و لا معصم التوحيد، الذي هو رؤية الله مستحقا لكمال الحب و تمام الذلّ، و ما يتبعهما من أوصاف الإيمان و محامد الأخلاق.

أنكر جمهور المتكلمين اتباعا للفلاسفة أن يكون الله محبوبا، أو انه يحب شيئا أو يحبه أحد، وهذا في الحقيقة إنكار لكونه إلها معبودا، فإن الإله هو المألوه الذي يستحق أن يؤله و يعبد، و التأله و التعبد يتضمن غاية الحب بغاية الذل، ولكن غلط كثير من أولئك فظنوا أن الإلهية هي القدرة على الخلق، و أن العباد يألههم الله لأنهم هم يألهون الله، كما ذكر ذلك طائفة منهم كالأشعري، وطائفة أخرى لما رأت الكتاب و السنة وكلام السلف و شيوخ أهل المعرفة يدل على أن الله يحب أن يكون محبوبا، صاروا يقرون بأنه محبوب، لكن هو نفسه لا يحب شيئا إلا بمعنى المشيئة، وجميع الأشياء مرادة له، فهي محبوبة له، وهذه طريقة أبي إسماعيل الأنصاري و أبي حامد الغزالي و أبي بكر بن العربي، وحقيقة هذا القول أن الله يحب الكفر و الفسوق و العصيان و يرضاه، وهذا هو المشهور من قول الأشعري و أصحابه ذكره عنه أبو المعالي و ابن عقيل و قالوا: إنه أول من قال بذلك.

فلما لم يعرفوا من الألوهية إلا الربوبية، ووجدوا أن الله رب كل شيء، ظنوا أن الإله هو القادر على الخلق فقط، ولذلك انتهوا كلهم إلى الجبر و نفي الاختيار و الحرية عن الإنسان، ومتى انتهينا إلى قول الجهمية الجبرية، التي تنفي الأفعال عن المخلوق نفيا مطلقا، قاد ذلك حتما إلى القول بوحدة الوجود فالخالق هو الله، و الفاعل هو الله، و ما الإنسان إلا صورة أو شبح، فهكذا عندما أخذ المتكلمون عن الفلاسفة قولهم في الأجسام و الذرة، لم يقدروا على معرفة الله إلا من جهة الربوبية، أي القدرة على الخلق، ثم انكروا المحبة و الحكمة في أفعاله، ثم امتزج ذلك بالتصوف فخرج الاتحاد و الحلول.

وعليه لا يعرف المتكلمون و موافقوهم من المتصوفة توحيد الألوهية، ولا يعرفون إلا توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية عندهم هو نفي الشريك في الفعل فقط، كما سنبينه في حلقة "مناقشة البوطي في مفهوم التوحيد".

و لا ريب أن من اصطلم و غاب عقله، فتلاشى المخلوق في شهوده، فإما أن لا يشاهد شيئا البتة، وهذا لعمر الله تلاش للمخلوق مثله مثل المغشيي عليه فلا مزية له؛ و إما أن يشاهد خيالات، فقولهم (الصوفية):" يغيب بمشهوده عما سواه" قول مجمل يحتاج إلى التحرير، فإن مشهوده الذي يقصدونه هو الله.

قال أبو بكر بن العربي في (العواصم): "إن الصوفية يقولون، لا ينال العلم إلا بطهارة النفس و تزكية القلب و قطع العلائق بينه و بين البدن، و حسم مواد أسباب الدنيا من الجاه و المال و الخلطة بالجنس و الإقبال على الله بالكلية، علما دائما و عملا مستمرا حتى تنكشف له الغيوب فيرى الملائكة و يطلع على أرواح الأنبياء و يسمع كلامهم، وراء هذا غلو ينتهي إلى القول بمشاهدة الله " (ص: 30/ 1) طبعة الشركة الوطنية للنشر و التوزيع الجزائر 1981.

و قال ابن حزم في (الملل و النحل): " رأيت لرجل من الصوفية يعرف بابن شمعون كلاما نصه: أن لله تعالى مائة اسم و أن الموفى مائة هو ستة و ثلاثون حرفا، ليس فيها في حروف الهجاء شيء إلاّ واحد فقط، وبذلك الواحد يصل أهل المقامات إلى الحق، و قال أيضا: أخبرني بعض من رسم لمجالسة الحق أنه مدّ رجليه يوما فنودي ما هكذا يجالس الملوك، فلم يمد رجله بعدها، يعني أنه كان مديما لمجالسة الله تعالى " (ص:)

و ادعاء الصوفية رؤية الله، غايتهم القصوى، و جل كلامهم يدور حولها، و هي مقصدهم من الفناء؛ و كل من أثبت رؤية الله يوم القيامة من الأشاعرة، فإما لتعظيمه النصوص كابن فورك و قدماء الأشاعرة، و إما لميله للصوفية، لأن دعوى رؤية الله في الدنيا أهم مطالب الصوفية المتأخرين، و إلا فإن حذاق الأشاعرة، و وفقا لأصولهم ينكرون الرؤية، لأن إثباتها مع إنكار العلو و الاستواء والفوقية، تناقض بشع.

و هذا ما وقع فيه البوطي كما سنبينه في مسألة - المصطلحات الكلامية -.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير