تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إن اقتصار المتصوفة في سلوكهم، على مجرد ما يحصل بنظر القلب و الذوق، دون عرض مواجيدهم على الكتاب و السنة، قادهم إلى التأله المطلّق؛ ذلك أن الزهد المطلق، و العبادة المطلقة بترك الشهوات البدنية من الطعام و الشراب، و التزام الخلوة، يقود إلى معرفة مطلقة بثبوت الربّ ووجوده، فلذلك تجد المتصوفة يحبون ذكر الله بالاسم المفرد (الله)، أو بضمير الغيبة (هو)، وهذا الذكر المبتدع، لم يرد في السنة، ولا يمكن عده ذكرا لله إلا بقصد المتكلم به فهذا الذكر لا يفيد إلا أن الله مطلق، بخلاف الذكر المشروع بصفات الله و أسمائه، الذي فيه تعيين للإله المعبود و معرفة به معينة، تدعو إلى التفريق بينه و بين غيره من معبودات الناس المتعددة، فالذكر الصوفي لا يثبت إلا مدبّرا للعالم لا صفة له، كما أن كليات الفلاسفة لا تثبت إلا مدبّرا للعالم لا صفة له.

فهذا التأله المطلق، الموجود عند الصوفية، يقود إلى معرفة بحسب مقتضاه.

إن جل الأمم التي لا خبر عندها بصفات الله و أسمائه، تثبت إلها كليا مطلقا، تجسد تجليه في صور شتى منها: الشمس، أو الريح، أو النور، أو غير ذلك؛ و لأن فطر هؤلاء لا تستطيع الإيمان بإله لا مظهر له، تحاول تجسيد ذلك التصور المطلق الكلي للمدبّر، في ظاهرة من ظواهر الطبيعة.

و لما كان المتصوفة منتمين للإسلام، و عندهم من العلم أكثر مما لأولئك، و علموا استحالة وصفه بجزء من جزئيات الوجود، ادّعوا الوحدة و الظهور المطلق في الكون.

إن التأله المطلق أفضى بهم إلى الاتحاد و الحلول، لأن المعرفة المطلقة بالرّب، و التي هي عبارة عن الشعور بخالق مدبر للعالم تثبت له صفات تميزه عن غيره.

و لهذا لا يثبت له أصحاب و حدة الوجود أية صفة من الصفات، لأن الصفات عندهم تفرقة تنافي اعتقاد أن الرب هو الوجود المطلق، الذي لا يتميز، و أن عين الوجود هو عين الخالق، و أن الربوبية و الألوهية مراتب ذهنية لا حقيقية.

قال الهروي في (المنازل) في منزلة الفكرة:" و نعت ما ينعته لاحد «.

قال ابن القيم:" أي نعت الناعت له، ميل و خروج عن التوحيد، ( .... ) و الاتحادي يقول: نعت الناعت له شرك، لأنه أسند إلى المطلق ما لا يليق به إسناده من التقييد، و ذلك شرك و إلحاد «.

قال ابن القيم:" فرحمة الله على أبي إسماعيل، فتح للزنادقة باب الكفر و الإلحاد، فدخلوا منه و أقسموا بالله جهد أيمانهم، إنّه لمنهم و ما هو منهم، و غره سراب الفناء، فظن أنه لجة بحر المعرفة و غاية العارفين، و بالغ في تحقيقه و إثباته فقاده قسرا إلى ما ترى " (ص: 178/ 1).

هذا الرجل أعني الهروي مع ما له من الفضل في نفسه، و في أهل طبقته، لما صنف من كتب ذم بها الكلام و أهله؛ وقع في هذا الضلال، لأنه أنساق خلف بريق التصوف ظنا منه أنه سنا المعرفة و التوحيد، فكان كما قال عنه شيخ الإسلام الذي لا يلتذ بنقد الأئمة و العلماء:" عمله خير من علمه ".

و لا تجد عند أكثر الصوفية نتيجة هذا التأله المطلق، إلا الإقرار بالربوبية الذي ليس فرقانا بين أهل التوحيد و المشركين، و لم يمدح به الله المؤمنين، و إنما مدحهم بتوحيد الإلهية الذي دعاهم إليه الرسول، لأن الإقرار بالربوبية فطري في الناس، لا يحتاج إلى دليل و برهان، و الاستدلال عليه بطرق المتكلمين و الصوفية من باب إيضاح الواضح، و قد هديت إليه غالب الأمم، فإنها تقر بوجود خالق مدبر للكون، و إنما اختلفت في تسميته، و الذي خص به أتباع الأنبياء: توحيد الألوهية، المفرق بين الكفر و الإيمان.

و الذي أوقع هؤلاء في هذا الضلال المركب، عدم علمهم بالكتاب و السنة، فإنهما أصلان إن لم يصحبا الناظر أو المريد ضل و غوى، فالإنسان بدون الإيمان بالله و رسوله لا يمكنه أن ينال معرفة الله و لا الهداية إليه، و هؤلاء استقوا معرفتهم المطلقة من التجرد و التخلي، لا من الكتاب و السنة، فحقيقة قولهم: إن ذوات المخلوقات بأسرها كانت ثابتة في العدم، ذاتها أبدية أزلية، و أن وجود الله فاض عليها، فوجودها وجود الله، و ذواتها ليست ذوات الله، و يفرقون بين الوجود و الثبوت، فالثبوت في العدم، و الوجود بعد الفيض، و منهم من لا يفرق، الكل عنده واحد كالعفيف التلمساني.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير