سئل بندار الفارسي عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: هذه مسألة فيها حيف على المعنى، وذلك أنه شبيه بقولك ما موضع الإنسان من الإنسان؟ فليس لإنسان موضع من الإنسان، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله، وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده ...
صدق بندار ...
فالاعجاز سار في القرآن كله لا تخلو منه آية ,وانطلاقا من هنا اقترح عبد القاهر الجرجاني نظرية النظم لتفسير إعجاز القرآن وذلك لحضور النظم في كل موضع:فلو كان الاعجاز مثلا متصلا بالاخبار بالغيبيبات أو بمطابقة المخترعات العصرية أو بحكمة التشريع ... لزم أن يخلو من الاعجاز ما ليس فيه ذكر للأول أو الثاني أو الثالث ... والحال أن هنا آيات عديدة خالية مما ذكر ... لكنها معجزة قطعا. فثبت أن الاعجاز يجب أن يناط بوصف لا تخلو منه آية .......... وما ذاك إلا النظم.
صدق عبد القاهر ...
لكن كيف تتحول الكلمة "العادية" إلى كلمة "معجزة"؟
الكلمة العربية في ذاتها ليس فيها ما يعجز ... فهي ملقاة على الطريق في متناول كل متكلم ... لكن الشأن في "توظيف الكلمة في سياق" هذا هو النظم .. وهذا هو موضع سمو القرآن فوق كل الأعناق ...
ولتوضيح الفكرة نقدم هذا المثال:
كلمة "مكرمون"-اسم مفعول من" أكرم"- عادية جدا, مألوفة في معناها وغير غريبة في جرسها.
لكنها في قوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
تحولت إلى معجزة حقيقية ... فقد مهد لها بسياق فأدرجت فيه فأصبحت غير عادية ........... والأعجب من ذلك أن المتدبر قد لا يلتفت إليها وهي المشعة بأنوارها الخفية ... فجاز لنا القول" إن من وجوه إعجاز القرآن وجوده حيث لا يتوقع له وجود" ..
ظاهر أن الْمُكْرَمِينَ وصف للرسل الملكية خاصة ,وثناء عليهم ... ولا يجوز دخول المضاف إليه في الوصف ... فمقرر أن الصفة بعد المركب الإضافي تتلبس بأحد طرفي الإضافة ولا يجوز أن تتلبس بهما معا ........ فتقول:"هذا غلام زيد الكريم":فالرفع وصف للغلام , والجر وصف لزيد, ولا يقال " هذا غلام زيد الكريمين أو الكريمان " وتريد وصف الطرفين .... بداهة أن المرفوع لا يكون وصفا للمنصوب وكذاك عكسه.
ومع هذا فخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في الآية قد مدح مرتين بوصف لم يوصف به هو, بل وصف به غيره!!! فليتأمل.
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ...
هم ملائكة بررة ..... أثنى ربهم عليهم وأشار إلى مكانتهم عنده: فهم من المكرمين.
وهنا نلحظ امتداد الوصف إلى إبراهيم -عليه السلام-بواسطة اللزوم:
ما اختار الله من ملائكته ليبعثهم إلى خليله إلا المكرمين منهم ... ومن لوازم ذلك أن إبراهيم مكرم آخر ... فلا يختار الرسول المكرم إلا لمرسول إليه مكرم.
هذا ثناء ...
ثم يسترسل السياق فنعرف قصة الضيف:
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
الخليل أكرم ضيفه بصورة نادرة-يرجع لمعرفة تفاصيلها إلى تحليل ابن القيم البديع في الرسالة التبوكية-
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ....
مكرمين عند الخليل الذي جاءهم بعجل سمين وهم مجهولون عنده ...
فالخليل موصوف بالكرم .......
هذا ثناء آخر ...
فاعجب لصفة لم يوصف بها هو دلت مع ذلك على ثناءين عنه:
التكريم: إبراهيم واقع عليه.
الكرم:إبراهيم واقع منه.
ـ[زكرياء توناني]ــــــــ[27 - 11 - 06, 10:40 ص]ـ
المقالة الإولى: وتتضمن تحليلا للقولة الشهيرة التي صدرت من الوليد بن المغيرة في وصف أسلوب القرآن.
جزاكم الله خيرا.
و قد طرح لنا أستاذ مادة " الإعجاز اللغوي و البياني في القرآن الكريم " هذا الموضوع للبحث، و قال إنه لم يعثر على أحد حلل مقولة الوليد بن المغيرة في وصف القرآن.
فجزاكم الله خيرا مرة أخرى.
ـ[ابوخالد الحنبلى]ــــــــ[19 - 04 - 10, 07:59 م]ـ
انا احب مقالاتك حتى كنيتك احبها كنية احد المشايخ الذين احب فتاويهم تعرفون من هو بالطبع
ـ[محمود الرشيد]ــــــــ[03 - 05 - 10, 04:57 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وهذا رابط لاحدى المحاضرات التى ألقاها أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه في جامعة الامام حول هذا الموضوع وهي إحدى المحاضرتين اللتين تألف منها كتاب (قضية الشعر الجاهلي عند ابن سلام)
http://www.islamway.com/?iw_s=Lesson..._id=69311 فأرجو ان تستفيدوا منها ولا تنسونا من صالح دعائكم
ـ[هاني درغام]ــــــــ[05 - 05 - 10, 01:02 ص]ـ
جزاكم الله خيرا كثيرا وبارك لكم