رجعت إلى كلام العلامة المحقق الشيخ العثيمين رحمه الله، فوجدت هذه العبارة: (وأما التقرير، فإنه في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، أنه أتى بجارية يريد أن يعتقها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله؟ قالت: في السماء، قال من أنا، قالت رسول الله، قال اعتقها، فإنها مؤمنة) رواه مسلم.
فهذه جارية لم تتعلم، والغالب على الجواري الجهل، لا سيما وهي أمة غير حرة، لاتملك نفسها، تعلم أن ربها في السماء، وضلال بني آدم ينكرون أن الله في السماء، ويقولون، إما إنه لافوق العالم ولا تحته، ولايمين، ولاشمال، أو أنه في كل مكان!!) أ. هـ شرح الواسطية 1/ 390
فلعلك نقلت من موضع أخطا في حكاية قول الشيخ رحمه الله، ومعلوم عنه دقة العبارات، وأن مذهبه ـ كما هو مذهب السلف الصالح ـ أن هذه الالفاظ المجملة لاتثبت ولا تنفى بغير نص، لان هذا الباب توقيفي، لايجوز إثبات شيء لله تعالى او نفي شيء عنه إلا بدليل، وأما الالفاظ المجملة المحتملة للصواب والخطأ ـ مثل لفظ المكان والجهةوالحيز ـ فيستفصل عن المعنى الذي عناه المتكلم ويحكم بالتفصيل وفق ذلك، هذا هو التحقيق في هذه المسألة، وإن كان قد ورد إطلاق المكان عن بعض السلف والعلماء، مع أنه محمول على إراتهم المعنى الصحيح بلا ريب.
ولزيادة إيضاح هذه المسألة، ودفعا لما قد يحصل من لبس، أنقل ما قاله شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: في درء تعارض النقل والعقل 15ـ 21 الجزء السابع:
(وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان ويعنون بها تارة أمرا معدوما وتارة أمرا موجودا.
ولهذا كان أهل الإثبات من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف: منهم من يطلق لفظ الجهة، ومنهم من لا يطلقه، وهما قولان لأصحاب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والرأي.
وكذلك لفظ (المكان) منهم من يطلقه، ومنهم من يمنع منه.
وأما لفظ المتحيز فمنهم من ينفيه، وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه.
لأن هذه ألفاظ مجملة، تحتمل حقا وباطلا، وإذا كان كذلك، فيقال قول القائل: إن الله في جهة، أو حيز، أو مكان، إن أراد به شيئا موجودا غير الله فذلك من جملة مخلوقاته، ومصنوعاته، فإذا قالوا: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، امتنع أن يكون محصورا، أو محاطا بشيء موجود غيره، سواء سمى مكانا، أو جهة، أو حيزا، أو غير ذلك.
ويمتنع أيضا أن يكون محتاجا إلى شيء من مخلوقاته، لا عرش ولا غيره، بل هو بقدرته الحامل للعرش، ولحملته.
فإن البائن عن المخلوقات العالي عليها يمتنع أن يكون في جوف شيء منها، وإذا قيل إنه في السماء كان المعنى إنه في العلو، وهو مع ذلك فوق كل شيء، ليس في جوف السماوات، فإن السماء هو العلو، وكل ما علا فهو سماء، يقال سما يسمو سموا، أي علا يعلو علوا، وهذا اللفظ يعم كل ما يعلو لم يخص بعض أنواعه بسبب القرينة.
فإذا قيل فليمدد بسبب إلى السماء، فقد يراد به السقف، وإذا قيل نزل المطر من السماء، كان نزوله من السحاب.
وإذا قيل العرش في السماء، فالمراد به ما فوق الأفلاك، وإذا قيل الله في السماء، فالمراد بالسماء ما فوق المخلوقات كلها، أو يراد أنه فوق السماء، وعليها فأما أن يكون في جوف السماوات فليس هذا قول أهل الإثبات، أهل العلم والسنة.
ومن قال بذلك فهو جاهل ن كمن يقول: إن الله ينزل ويبقى العرش فوقه،أو يقول إنه يحصره شيء من مخلوقاته، فهؤلاء ضلال كما أن أهل النفي ضلال.
وإن أراد بمسمى الجهة، والحيز والمكان، أمرا معدوما، فالمعدوم ليس شيئا، فإذا سمى المسمى ما فوق المخلوقات كلها حيزا، وجهة، ومكانا، كان المعنى أن الله وحده هناك ليس هناك غيره من الموجودات، لا جهة، ولا حيز، ولا مكان بل هو فوق كل موجود من الأحياز، والجهات، والأمكنة، وغيرها سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: أن يقال لو عارضكم معارض وقال:الجهة وإن كانت موجودة فهي مخلوقة له مصنوعة وهي مفتقرة إليه، وهو مستغن عنها، فإن العرش مثلا إذا سمي جهة، ومكانا، وحيزا، فالله تعالى هو ربه وخالقه، والعرش مفتقر إلى الله، افتقار المخلوق إلى خالقه، والله غني عنه من كل وجه.
¥