قال الشيخ البراك قوله "والأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل .. ": المراد بـ (ـهذه الأشياء): الصفات الخبرية كالإصبع واليد والعين.
وقوله: "الكف عن التأويل": يقال: بل الواجب في جميع صفات الله تعالى الكف عن تأويلها الذي هو صرف ألفاظ النصوص عن ظاهرها بغير دليل؛ فإن ذلك من تحريف الكلم عن مواضعه، فما ذهب إليه ابن فورك من تأويل الإصبع هو من ذلك، فهو باطل، بل هو من أقبح التحريف.
وقوله في العبارة: "مع اعتقاد التنزيه": إن أراد بالكف عن التأويل مع اعتقاد التنزيه إثبات هذه الصفات لله تعالى على ما يليق به فهو حق، وإن أراد نفي حقائقها مع تفويض معاني ما ورد في النصوص من ذلك فيكون مراده بهذا القول ترجيح طريقة التفويض على طريقة التأويل، وكلاهما باطل؛ لأن مبناهما على نفي حقائق هذه الصفات، وهو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشاعرة وغيرهم.
وهذا التقدير هو الغالب على طريقة الحافظ والنووي – رحمهما الله - وأهل السنة والجماعة يثبتون الأصابع لله تعالى على ما دل عليه هذا الحديث وأنها من صفة اليد، وقولهم في الأصابع كقولهم في سائر الصفات؛ وهو: الإثبات ونفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية.
49 – قال الحافظ 8/ 580 قال: " قوله: (فأخذت) كذا للأكثر بحذف مفعول أخذت، وفي رواية ابن السكن: " فأخذت بحقو الرحمن "، وفي رواية الطبري: " بحقوي الرحمن " بالتثنية، قال القابسي: أبى أبو زيد المروزي أن يقرأ لنا هذا الحرف لإشكاله ... وقال عياض: الحقو معقد الإزار، وهو الموضع الذي يستجار به ويحتزم على عادة العرب، لأنه من أحق ما يحامى عنه ويدفع، كما قالوا: نمنعه مما نمنع منه أزرنا، فاستعير ذلك مجازا للرحم من استعاذتها بالله القطيعة. انتهى، وقد يطلق الحقو على الإزار نفسه ..
والمعنى على هذا صحيح مع اعتقاد تنزيه الله عن الجارحة، قال الطيبي: هذا القول مبني على الاستعارة التمثيلية؛ كأنه شبه حال الرحم وما هي عليه من الافتقار إلى الصلة والذب عنها بحال مستجير يأخذ بحقو المستجار به، ثم أسند على سبيل الاستعارة التخييلية ما هو لازم للمشبه به من القيام، فيكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، ثم رشحت الاستعارة بالقول والأخذ وبلفظ الحقو، فهو استعارة أخرى، والتثنية فيه للتأكيد؛ لأن الأخذ باليدين آكد في الاستجارة من الأخذ بيد واحدة ". حديث (4830)
قال الشيخ البراك: ومن خير ما يقال في هذا المقام: قول الشافعي رحمه الله تعالى: " آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله".
وقول شيخ الإسلام في نقض التأسيس (3/ 127): "هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجبه".
50 – قال الحافظ 8/ 596 قال: " واختلف في المراد في القدم .. ، وقيل: المراد بالقدم الفرط السابق .. وقيل: المراد بالقدم قدم بعض المخلوقين. أو المراد بالقدم الأخير .. حتى يضع الرب فيها موضعًا .. وأنه يجعل مكان كل واحد منهم واحدا من الكفار بأن يعظم حتى يسد مكانه ومكان الذي خرج، وحينئذ فالقدم سبب للعظم المذكور .. قال: المراد بالقدم قدم إبليس .. يكون المراد بالرجل إن كانت محفوظة الجماعة .... ".
على حديث (4848)
قال الشيخ البراك: لم يختلف أهل السنة والجماعة في المراد بالقدم المذكور في الحديث؛ فالقدم عندهم هو قدم الرب سبحانه، والرجل كذلك؛ فالله تعالى موصوف بأن له قدمًا ورجلاً كما جاء في الحديث الصحيح، وكما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في الكرسي أنه موضع قدمي الرب سبحانه. وقول أهل السنة في القدم لله تعالى كقولهم في العينين واليدين والوجه؛ وهو الإثبات لحقائقها اللائقة به سبحانه، وأنها لا تماثل صفات المخلوقين، ولا يعلم العباد كنهها؛ فمعانيها معلومة وكيفياتها مجهولة. ويقولون في النصوص الواردة فيها: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ ومرادهم الإيمان بها، وبما تدل عليه من إثبات الصفات من غير تفسير لها بما يخالف ظاهرها، وهو التأويل المذموم الذي حقيقته التحريف.
والحافظ عفا الله عنه أكثر من نقل أقوال الشراح في تأويل القدم والرجل، وكلها أقوال مخالفة لظاهر الحديث ولمذهب السلف. ومبناها كلها على أنه ليس لله قدم حقيقة، كما أنه ليس له يدان حقيقة، ولا عينان حقيقة، ولا وجه، وهو مذهب المعطلة من الجهمية ومن تبعهم في تعطيل الصفات كلها أو بعضها، وليت الحافظ رحمه الله تعالى ضرب عن هذه الأقوال صفحًا؛ لأنها مخالفة كلها لظاهر الحديث، والمقصود منها دفع ظاهر الحديث - وهو إثبات القدم لله حقيقة - وهو مستحيل على الله عند النفاة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه، ولكن الحافظ ذكر أن مذهب السلف هو إمرار الحديث على ظاهره دون التعرض لتأويله.
ويظهر من سياق كلامه ترجيح هذه الطريقة. والغالب أن الحافظ يريد بطريقة السلف: التفويض في معاني النصوص لا إثبات ما تدل عليه من الصفات، فترجيحه لطريقة السلف لا يدل على أنه يثبت القدم لله حقيقة؛ يدل على ذلك قوله: (بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله).
وعند النفاة إثبات كل هذه الصفات نقص، فإضافتها إلى الله تعالى في هذه النصوص يوهم النقص عندهم، فيوجبون نفي ظاهرها، ثم يوجبون فيها:
إما التفويض، وإما التأويل مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهو مخالف لمذهب السلف كما أسلفنا.
¥