وقد هجا أبو حيان ابن عباد وابن العميد، فمن المرجح أن ابن فارس أراد أن يشوه سمعته ويثأر منه، فألصق به تهمة الزندقة، وأراد أن ينسب إلى ابن عباد الغيرة على الدين، فزعم أنه هم يقتل أبي حيان، ولكنه هرب منه.
4 - كان ابن فارس معاصراً لأبي حيان، وقد ذمه أبو حيان ذماً شنيعاً، وتنقصه في مجلس ابن سعدان بقوله: "إنه شيخ فيه محاسن ومساوئ، إلا أن الرجحان لما يُذم به، لا لما يحمد عليه، فمن ذلك أنه له خبرة بالتصوف، وهناك أيضاً قسط من العلم بأوائل الهندسة، وتشبه بأصحاب البلاغة؛ إلا أن هذا كله مردود بالرعونة والمكر والإيهام والخسة والكذب والغيبة ... ".
5 - ابن فارس الذي يسند إليه اتهام أبي حيان بالزندقة والموت في الاستتار قد مات قبل أبي حيان، وسواء أكانت وفاة ابن فارس سنة 360 أو 369هـ أو 375هـ أو 390 أو 395هـ فإنها كانت قبل وفاة أبي حيان. فكيف يقرر وفاة شخص آخر لم يمت بعد؟
وإذا أراد أحد أن يأخذ بشق رأيه وهو الاتهام بالزندقة، وذهب إلى أن الشق الثاني مدخول عليه، فإن اتهامه بالتحيز لابن عباد وابن العميد ما زال قائماً يقدح في طعنه أبا حيان، وموت الوزير المهلبي قبل أبي حيان يقطع ببطلان تعقبه ليقتله.
على أني لا أستبعد أن يكون خصوم أبي حيان هم الذين فعلوا ذلك، ولكنهم أسندوه لابن فارس، ليزيدوه قبولاً وثثبيتاً في نفوس سامعيه.
6 - ابن الجوزي –كما ذكر السبكي- متعصب على الصوفية، مبغض لهم، لهذا زاد من عنده قوله: "وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنه مجمج، ولم يصرح" وقد وصفه ياقوت بأنه كثير التخليط، ولهذا لا يعتمد على ما تفرد به.
7 - إذا وازنا بين أبي حيان وابن الراوندي وأبي العلاء المعري لم نجد تشابها يبيح لابن الجوزي أن يجعله أشد الثلاثة ضرراً على الإسلام، أو يسلكه في عداد المعادي للإسلام.
أما ابن الراوندي فلا جدال في زندقته وكفره، لأنه زعم أن في كلام أكثم بن صيفي ماهو أحسن من بعض القرآن؛ وادعى أن القرآن غير معجز بأن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي العرب، فلم يقدروا على معارضته، فيقال لهم: لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس أن إقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه لكانت نبوته ثبتت!!
وأما أبو العلاء فقد اتهم بالإلحاد، لبعض آرائه التي رددها في لزومياته، ولما قيل إنه عارض القرآن بكتابه الفصول والغايات، على نسق السور والآيات، وإن كان مظلوماً في اتهامه بالمعارضة، لأن كتابه لا يشير إلى ذلك.
وأما أبو حيان فليس في كلامه ما ينبئ عن زندقة أو إلحاد.
8 - بل إن في كلام أبي حيان ما ينقض دعوى خصومه نقضاً لا يبقي ولا يذر، فقد كان يغار على الدين منذ حداثته.
ذكر رأياً لأبي سعيد البسطامي، ثم عقب عليه بقوله: "وكان شديد التهور، عظيم العجرفة، ولم أجد نكراً من أحد حضر من أصحابه ومن غير أصحابه، وكنت حينئذ غريباً حديث السن فوقدتني الحمية لله ورسوله عند جهله".
وقد نقل تدليل أبي سليمان المنطقي على صحة البعث، وزاد على أدلته.
وذكر في أحد أسئلته لابن مسكويه حيرته في معرفة حقيقة ما سأل عنه، وقال: إن هذا يدل على توحيد من هو محيط بهذه الغوامض والحقائق، ويبعث على عبادة من هو عالم بهذه السرائر والدقائق.
وفي مقدمة البصائر والذخائر دعاء مؤمن متصوف، وفيه بعد ذلك إقرار صادق بجلال القرآن وإعجازه: "كتاب الله عز وجل الذي حارت العقول الناصعة في رصفه، وكلت الألسن البارعة عن وصفه، لأنه المُطْمِعُ بظاهره في نفسه، والممتنع في باطنه بنفسه، والدني بإفهامه إياك إليك، والعالي بأسرار غيوبه عليك، لا يطار بحواشيه، ولا يملُّ من تلاوته، ولا يُحسُّ بإخلاق جدته، كما قال علي بن أبي طالب عليه السلام: ظاهره أنيق، وباطنه عميق، ظاهره حكم، وباطنه علم".
وفيه تمجيد لأحاديث الرسول كقوله: "فإنها الشَرَكُ الواضح، والنجم اللائح، والقائد الناصح، والعلم المنصوب، والأمَم المقصود، والغاية في البيان، والنهاية في البرهان، والمفزع عند الخصام، والقدوة لجميع الأنام" وفيه بعد هذا تصوف وحض على الثقة في الله وحده.
وفي مقدمة كتابه (الإشارات الإلهية) قوله:
¥