"اللهم إنا نسألك ما يُسأل، لا عن ثقة ببياض وجوهنا عندك، وأفعالنا معك، وسوالف إحساننا قبلك، ولكن عن ثقة بكرمك الفائض، وطمعاً في رحمتك الواسعة، نعم وعن توحيد لا يشوبه إشراك، ومعرفة لا يخالطها إنكار، وإن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة، نسألك ألا ترد علينا هذه الثقة بك، فتشمت بنا من لم يكن له هذه الوسيلة إليك، يا حافظ الأسرار، ويا مسبل الأستار، ويا واهب الأعمار، ويا منشئ الأخبار، ويا مولج الليل في النهار، ويا مصافي الأخيار، ويا مداري الأشرار، ويا منقذ الأبرار من النار والعار، عد علينا بصفحك عن زلاتنا، وأنعشنا عند تتابع صرعاتنا، وحطة حالنا معك في اختلاف سكراتنا، وصحواتنا، وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا، لأنك أولى بنا. وإذا خفنا منك فأبرح خوفنا برجائنا فيك، وإذا غلب علينا يأسنا منك فتلفَّه بأمل فيك.
ثم يقول بعد بضع صفحات: "حرام على قلب استنار بنور الله أن يفكر في غير عظمة الله، حرام على لسان تعود ذكر الله أن يذكر غير الله، حرام على نفس طهرت من أدناس الدنيا أن تدنس بشيء من مخالفة، حرام على عين نظرت إلى مملكة الله أن تحدق إلى غير الله، حرام على كبد ابتلَّت بالثقة بالله أن تظمأ إلى غير الله، حرام على من لم ير الخير إلا من الله أن يُجدد طمعاً في غير الله، حرام على من تلذذ بمناجاة الله أن يناجي غير الله، حرام على من وقع في فقه الله أن يعبد غير الله".
9 - وفي سلوكه ما يكفي لنقض هذا الاتهام، لأنه كان يصلي بالمسجد، ويشكو أنه لا يرى بجواره إلا قصاباً أو ندّافاً الخ، وقد حج سنة 354هـ، ولأنه كان متصوفاً طول حياته، ثم منقطعاً للتصوف في أخريات حياته، إذ قضى سنواته الأخيرة بين الصوفية، وانطبع بطابعهم، ومات بينهم، ودفن بجوار علم من أعلامهم.
ولم يكن تدينه ليخفى على معاصريه، ولهذا يقول ياقوت إنه كان يَتَألَّه والناس على ثقة من دينه".
أما صوفيته: فلا شك فيها. فقد وصفه ياقوت بأنه شيخ في الصوفية، وبأنه صوفي السمت والهيئة، وعلل السبكي تحامل الذهبي عليه بأن أبا حيان صوفي والذهبي يبغض المتصوفة، ووصفه أبو العباس أحمد زركوب بأنه إمام في المتصوفة لا نظير له، .. ثم إن أبا حيان نفسه يحدثنا بأنه حج في رفقة من إخوانه المتصوفة سنة 354هـ، ويصف ما احتملوا في عودتهم إلى بغداد من مشقات جسام كادت تودي بهم.
وكان يتزيا بزي المتصوفة، وينطبع بطابعهم وسمتهم، في شبابه ورجولته وأيام جهاده للاتصال بالوزراء، وقبل أن يندمج بالصوفية اندماجه العلمي الأخير.
وكان يأنس إليهم، ويصاحبهم، فقد سأله ابن سعدان عن شخص، فقال له: والله الذي لا إله إلا هو ما كان بيني وبينه ما يقتضي هذا الأنس والاسترسال، وإنما ركنت إليه لمرقعته وتاسُومَتِهِ عندما رأيته سنة 369هـ.
وقد عابه أبو الوفاء المهندس بمخالطة الصوفية. وله أدعية كثيرة مستوحاة من تصوف معتدل رفيع (!)، منها كتابه الإشارات الإلهية، كقوله: " اللهم خذ بأيدينا، فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعورنا، وارزقنا الألفة التي تصلح القلوب، وتُنقي الجيوب، حتى نعيش في هذه الدار مصطلحين على خير، مؤثرين للتقوى، عاملين بشرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة، آنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزودين للعافية التي لابد من الشخوص إليها، ولا محيد عن الإطلاع عليها، إنك تؤتي من تشاء ما تشاء ".
على أنه اختار شيراز مقاماً له، لأنها عامرة بالصوفية، ومات بها، ودفن في قبر بجوار المتصوف ابن عفيف.
ذكر آدم متز أن التصوف البغدادي قد ذاع في العالم الإسلامي في أواخر القرن الثالث الهجري "إذ حمل تلاميذ السري السقطي مذاهب الصوفية البغداديين إلى أنحاء المملكة الإسلامية، فحملها موسى الأنصاري (المتوفى حوالي 320هـ) إلى خراسان، والروذباري (المتوفي سنة 322 هـ بالفسطاط) إلى مصر، وأبو زيد الآدمي (المتوفى عام 341هـ) إلى جزيرة العرب.
وكذلك ظهر التصوف بمدينة نيسابور على يد أبي علي محمد ابن عبدالوهاب الثقفي (المتوفى 328هـ) وكانت شيراز بنوع خاص مملوءة بالصوفية حوالي آخر القرن الرابع".
¥