ويبين الشيخ الشثرى الفرق بين التوحيدين من خلال إقرار المشركين بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، فيقول رحمه الله:
(توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا به، فلو أشرك أحد فيما يختص بالرب من ذلك، لكان شركاً في توحيد الربوبية لا يغفر، والرب سبحانه يأمر نبيّه في كتابه العزيز بأن يحتج على المشركين في شركهم في توحيد الألوهية بإقرارهم بتوحيد الربوبية. قال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، و يخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} (3) وقال تعالى: {هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى يؤفكون} (4) - وغيرها من الآيات التي ذكرها المؤلف - ثم قال الشثرى:
(أتراهم مشركين في ربوبيته التي أقروا بها أم شركهم في توحيد الإلهية بجعل معبوديهم وسائط بينهم وبين الله؟) (5).
ويقول أيضاً - موضحاً شرك كفّار العرب الأولين -:
(فإذا عرفت أنهم لم يعتقدوا فيمن عبدوهم صفات الربوبية، وإنما جعلوهم وسائط بينهم وبين الله يحبونهم كحب الله، يدعونهم ويتذللون لهم، ويتضرعون إليهم لطلب الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، بزعمهم أن رتبتهم قصرت عن التأهل لسؤال رب الأرض والسماوات قال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفّار) (1) (2).
ومما أورده السهسواني في الجواب على اعتراض دحلان، قوله رحمه الله: -
(لا مرية في أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده هو ربنا ليس لنا رب غيره، وباعتقاد أن الله وحده هو معبود ليس لنا معبود غيره، وأن لا نعبد إلا إياه، والأمر الأول هو الذي يقال له توحيد الربوبية، والأمر الثاني هو الذي يقال له توحيد الألوهية.) (3). ثم ذكر السهسواني الآيات الدالة على كلا الأمرين (4) - إلى أن قال رحمه الله:
(ولا أظنك شاكاً في أن مفهوم الرب، ومفهوم الإله متغايران، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر، وفي اعتقاد المسلمين الخالص واحداً. وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيد، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين توحيد (الرب) ولا يعتقد توحيد الإله، وأن يشرك واحد من المبطلين في الإلهية، ولا يشرك في الربوبية، وإن كان هذا باطلاً في نفس الأمر، ألا ترى أن مصداق الرازق، ومالك السمع والأبصار، والمحي والمميت، ومدبر الأمر، ورب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء والخالق، ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السماء، ومصداق الإله واحد؟ ومع ذلك كان مشركو العرب يقرّون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما ويشركون في الألوهية والعبادة) (5).
ويكشف السهسواني عن تنبيه مفيد، وهو أن كون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية والألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين ..
يقول رحمه الله:
(فعبّاد القبور يقرون بتوحيد الرازق، والمحي والمميت، والخالق والمؤثر، والمدبر والرب، ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفاً وطمعاً، ويذبحون لهم، ويطوفون لهم، ويحلقون لهم، ويخرجون من أموالهم جزءاً لهم، وكون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين من الأمم الماضية، وهذه الأمة.
أما نعقل أن لفظ توحيد الربوبية، ولفظ توحيد الألوهية كلاهما مركبان إضافيان، والمضاف في كليهما كلي، وهذا غني عن البيان، وكذلك المضاف إليه في كليهما، فإن الربوبية والألوهية منتزعان من الرب والإله، وهم كليان. أما الرب فلأن معناه المالك والسيد والمتصرف للإصلاح والمصلح والمدبر، والمربي، والجابر، والقائم والمعبود، وكل واحد مما ذكر معنى كلي.
وأما الإله فلأن معناه المعبود بحق أو باطل، وهو معنى كلي، فالمنتزع منهما أيضاً يكون معنى كلياً، فتوحيد الربوبية اعتقاد أن الرب واحد سواء كان ذلك الرب عين الإله أو غيره، وتوحيد الألوهية اعتقاد أن الإله واحد سواء كان ذلك الإله عين الرب أو غيره.
¥