علاقة موضع الوقف والابتداء بالنحو:
لو تصفحنا كتب الدارسين في أسباب نشوء النحو لوجدناهم يوردون الروايات الكثيرة التي تدل على فشو اللحن وانتشاره بعد اختلاط العرب بغيرهم من الأمم الداخلة في الإسلام، مما حدا بهم إلى وضع علم النحو صوناً للسان من اللحن وحفظاً للقرآن منه ويكررون رواية من أقرأ ذلك الأعرابي قوله تعالى (إن الله بريءٌ من المشركين ورسوله) التوبة /3، إذ أقرأه إياها بكسر اللام من (رسوله) فقال الأعرابي: إن برئ الله من رسوله، فنحن منه برءآء كذلك. فاستعظم حفاظ القرآن والعالمون به هذا الأمر وأنكروه، ويكادون يجمعون على أن واضع علم النحو هو (أبو الأسود الدؤلي) نفسه، أو أنه أخذه عن سيدنا عليّ بن أبي طالب ( t) حيث وضع أبواباً له وقال: أُنح هذا النحو ..
وكان هذا العمل الخطوة الأولى في عمل النحو، ذلك أن المسلمين عرفوا بدايةً أن عليهم أن يقرأوا القرآن وأن يفهموه لأنه هو الذي ينظم حياتهم، ومن ثم نستطيع تفسير نشأة الحركة العقلية العربية كلها بأنها كانت نتيجة نزول القرآن الكريم فهي كلها من نحو وصرف وبلاغة وتفسير وفقه وأصول كلام، تسعى الى هدف واحد هو: فهم النص القرآني الكريم.
ومن تمام معرفة فهم النص معرفة مواطن الوقف والابتداء في القرآن الكريم، إذ مواطن الوقف تغير معنى النص ومفهومه وعلى هذا تكون علاقة الوقف والابتداء بالنحو وثيقة.
ولقد عدّ الأوائل هذا العلم (الوقف والابتداء) جزءاً من علم القراءات مع أن استقلاله واضح لأن علم القراءات يعتمد على أركان ثلاثة، ليس كامله أن يخرج عنها هي: صحة السند وموافقة المصحف، وموافقة العربية ولو بوجهٍ.
فهو من العلوم المنقولة التي ليس للقارئ اجتهاد إلا ما يأخذ من غيره، أما هذا الموضوع فالدليل على استقلاليته: إن المؤلفين فيه لم يتفقوا على أنواعه ولا على مواضعها، ويدلل عليه قول الأشموني: وقد يكون تاماً على تفسير، وإعراب وقراءة غير تام على آخر. وقول ابن الجزري: ومن المواضع التي منع السجاوندي الوقف عليها، وهو من الكافي الذي يجوز الوقف عليه ويجوز الابتداء بما بعده، قوله تعالى (هدى للمتقين) البقرة /2 منع الوقف عليه، قال: لأن (الذين) صفتهم.
وقول المبرّد، في (وأهل العراق لهم كارهينا) محمول على (أرى) ومن قال: (وأهل العراق لهم كارهونا) فالرفع من وجهين: قطع وابتداء، ثم عطف جملة على جملة بالواو، ولم يحمله على (أرى).
وعن ابن جنيّ: في (التائبون العابدون) التوبة/112، ويروى عن الاعمش (التائبين العابدين) قال أبو الفتح: أما الرفع (التائبون العابدون) فعلى قطع واستئناف، أي: هم التائبون العابدون.
فهذه أمثلة على أن موضوع الوقف والابتداء من المواضيع التي تعتمد النحو بأحكامه وقواعده أساساً تعين عليها أنواع الوقف ومواضعه، إلا أن مسألة اعتباره جزءاً من علم القراءات تحتاج إلى دليل!!.
وأما من يعلل سبب إطلاق القدماء عليه ذلك – أي من علم القراءات – لأنهم لاحظوا أن معظم القراء قد كتبوا فيه،فأبو عمرو بن العلاء وحمزة بن حبيب الزّيات وخلق بن هشام وحفص ابن عمرو الدوري، سمّوا كتبهم بـ (الوقف والابتداء)، ونافع ويعقوب بـ"وقف التمام". وهذا لا يكون دليلاً لأن النحاة قد خلّفوا فيه كتباً، كأبي جعفر الرؤاسي، ويحيى بن زياد الفراء والأخفش سعيد بن مسعدة ومحمد بن سعدان وأبي بكر الأنباري وأبي جعفر النحاس، مما يوقفنا على الثاني وهو علاقته بعلم النحو، لأن القراء أنفسهم كانوا لغويين ونحويين، لا كما هو الحال عليه اليوم، فإن من أركان القراءة عندهم أن توافق العربية ولو بوجه والنحاة الذين ليس لهم كتب في هذا الخصوص وجدت لهم آراء في كتبهم الأخرى عن الوقف والابتداء.
أضف إلى ذلك أن الحديث عن مسائل النحو يتجاوز كتب النحو إلى كثير من كتب العلوم الأخرى، ففي كتب اللغة نحو كثير وكذلك في كتب الأمالي والمجالس والتفسير وفي علوم القرآن وإعرابه وأصول الفقه والسير.
ومحاولة الفهم – أي من وضع النحو لفهم نصوص القرآن – هذه هي التي حددت مسار المنهج لأنها ربطت درس النحو بكل المحاولات الأخرى التي تسعى لفهم النص، ومن ثم فان دراسة منهج النحو عند العرب لا تكون صحيحة إلا مع اتصالها بدراسة العلوم الأخرى.
¥