روى مالك عن زيد بن أسلم: لونها مشرق حسن فهي لا كخمر الدنيا في منظرها الرديء من حُمرة أو سواد.
{لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}: أي هذه الخمر لذة يلتذها شاربوها 0
قال ابن قتيبة: أي لذيذة يقال شراب لذاذ إذا كان طيبا وأنشد:
بِحَدِيثَها اللَّذِّ الَّذِي لَوْ كَلَّمْتْ ... أُسْدَ الْفَلاَةِ بِهِ أَتَيْنَ سِرَاعَا
ولما كان قد أثبت لها الكمال، نفى عنها النقص وذلك في قوله عز وجل:-
{لا فِيهَا غَوْلٌ} الغول: إهلاك الشيء من حيث لا يحس به قاله الراغب الأصفهاني 0
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على خمسة أقوال:
أحدها: ليس فيها صداع وهو قول ابن عباس وقال قتادة ليس فيها صداع رأس 0
قال ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ:"فِي الْخَمْرِ أَرْبَعُ خِصَالٍ: السُّكْرُ، وَالصُّدَاعُ، وَالْقَيْءُ، وَالْبَوْلُ، فَنَزَّهَ اللَّهُ خَمْرَ الْجَنَّةِ عَنْهَا 0
والثاني: ليس فيها وجع بطن قاله ابن عباس أيضا وبه قال مجاهد وابن زيد لأن شارب الخمر يشتكي بطنه 0
والثالث: ليس فيها أذى ولا مكروه قاله سعيد بن جبير، وذلك أن العرب تقول للرجل يصاب بأمر مكروه، أو ينال بداهية عظيمة: غالَ فلانا غولٌ 0
والرابع: لا تغتال عقولهم قاله السدي وقال الزجاج لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا يصيبهم منها وجع 0 والمعنى لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها، قال الشاعر:
وَما زَالَتِ الكأْسُ تَغْتَالُنَا ... وَتَذْهَبُ بِالأوَّلِ الأوَّلِ
وقيل: الخمر غول للحلم والحرب غول للنفوس 0 أي جرت مجرى المثل 0
والخامس: ليس فيها إثم حكاه ابن جرير 0
قلت: ولعل هناك قولا سادسا وقد جاء في مسائل الأزرق مع ابن عباس قول آخرعنه وقد سأله عن قوله تعالى {لا فيها غول} قال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنيا، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس:
رب كأس شربت لا غول فيها وسقيت النديم منها مزاجا
و قال الإمام ابن جرير الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في تفسير الآية ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها وجه ـ عدا الوجه الأخير ـ والله تعالى ذكره قد نفى عن شراب الجنة أن يكون فيه غَوْل، فالذي هو أولى بصفته أن يقال فيه كما قال جل ثناؤه {لا فِيها غَوْلٌ} فيعم بنفي كل معاني الغَوْل عنه، وأعم ذلك أن يقال: لا أذى فيها ولا مكروه على شاربيها في جسم ولا عقل، ولا غير ذلك.
وهنا نكتة بلاغية وهي أن أصل المسند التأخير عن المسند إليه. وقد يقدم ليفيد تقديمه قصر المسند إليه على المسند نحو ((لا فيها غول)) أي أن عدم الغول مقصور على الكون في خمر الجنة 0
وهناك نكتة أخرى وهي أن الله قال لا فيها غول وقال في البقرة لا ريب فيه أي فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم الغول؟
وأجاب عنها الفخر الرازي بما حاصله: لأنهم يقدمون الأهم فالأهم والأهم في البقرة نفي الريب بالكلية عن الكتاب ولو قلت لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً أخر حصل الريب فيه لا ها هنا كما قصد في قوله,:" {لا فيها غول} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا , فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا0وقال الالوسي إن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً غيره فيه الريب كما قصد في الآية تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا نقله عن الزمخشري وذكره ابن سيده والله اعلم 0
{وَلا هُمْ عَنْها يُنزفُونَ} و {عن} هنا للسببية، فهى بمعنى الباء، أى: ولا هم بسبب شربها تذهب عقولهم، وتختل أفكارهم، كما هو الحال فى خمر الدنيا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله {وَلا هُمْ عَنْها يُنزفُونَ} فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة {يُنزَفُونَ} بفتح الزاي، بمعنى: ولا هم عن شربها تُنزف عقولهم 0
ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتُم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
وعليه يتنزل تفسير ابن عباس ومجاهد قالا لا تذهب عقولهم وكذا قال السدي وابن زيد وقتادة 0
وقرأ عامة قراء الكوفة: {وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزِفُونَ} بكسر الزاي وهم حمزة والكسائي، بمعنى: ولا هم عن شربها يَنْفَد شرابهم.
ومنه قول الشاعر:
دعيني لا أبا لك أن تطيقي ... لحاك الله قد أنزفت ريقي
وذهب الفراء أن قراءة الكسر تشتمل على المعنيين قال يقال: قد أنْزف الرجلُ إذا فنِيت خَمرُهُ. وأَنْزَف إذا ذهبَ عقله.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى غير مختلفتيه، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن أهل الجنة لا ينفد شرابهم، ولا يُسكرهم شربهم إياه، فيُذْهب عقولهم.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأت أسبابه وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل الله لنا ذلك ذخرا إلى يوم لقاه والعرض عليه إنه بالإجابة جدير سبحانه نعم المولى ونعم النصير0
¥